عبدالله العوضي

تعلقت بالإعلام من خلال أستاذة كريمة زارتنا من مصر العروبة، وهي جهان رشتي، درستنا مادة «الإعلام والمجتمع» بجامعة الإمارات كانت بالنسبة لي الجذوة الأولى في حياتي الإعلامية. ولشدة تأثير الإعلام بكافة وسائله في بناء المجتمع أو هدمه أحياناً، فقد سميت صحافته بصاحبة الجلالة وشركاته الممتدة بالإمبراطورية وأسميه بـ«الحاسة السادسة» لأي مجتمع لا يستغني عن نبض الإعلام في رفع سقف الحرية فيه أو تذبذبه حسب الظروف المتقلبة.

ففي الواحد من نوفمبر 1996 ظهر إلى وجود الإعلام العربي «قناة الجزيرة» التي أبهرت متابعيها من أي تيار فكري، لأنها «فرقعت» وملأت الفضاء الإعلامي في دنيا العرب صخباً وضجيجاً حتى سميت تجاوزاً بـ«سي.إن.إن» العرب بعد الـ«سي.إن.إن» الأميركية، وشتان الفرق بين القناتين في المضمون والمحتوى، ومن يريد أن يدرك ذلك على وجه السرعة فليعد إلى حلقات «لاري كنج» التي استمرت ربع قرن إلى أن أعلن مقدمها توقفه للبحث عن إبداع آخر.

وهكذا هو الإعلامي والإعلام الباحث عن الحقيقة ولو بشكل جزئي. وكنت في نفسي متحفظاً على «قناة الجزيرة» ولم أتحفظ يوماً على قناة الـ«سي.إن.إن» الأميركية التي نالت شهرتها من غزو العراق للكويت ومتابعتها الدقيقة له لحظة بلحظة، مع أنني من مدمني الـBBC أكثر من أي وسيلة إعلامية أخرى ولازلت أرى فيها بغيتي.

ومنذ اللحظة الأولى لبروز قناة «الجزيرة» كان في صدري حكة منها، لإيماني بأن الإعلام الواعي لا يعتاش على الفرقعات طويلاً، فسرعان ما يذهب الصوت العالي سدى، ويعود الناس أو الجمهور لمتابعة الحقائق أكثر من صدى الصوت الصداح.

وكانت الملاحظة الوحيدة والعامة الظاهرة لكل متابع لمَ «قناة الجزيرة» لا تتناول أي شأن قطري داخلي، وإن كانت تلهب ظهور الآخرين بسياطها المؤلمة نقداً والموجعة فضحاً للسرائر والخبايا في أي موضوع تناولته.

بعض متابعي «قناة الجزيرة» كان يرى أن برامجها الساخنة ما هي إلا تمثيليات مرتبة سلفاً من باب كسب المزيد من المتابعين، فهي لا تختلف عن حلبة المصارعة المدفوعة قيمتها للمنتصر والمهزوم في الوقت نفسه، بعد تحديد كل طرف من قبل، ويا ليت كانت كحلبة الملاكمة التي لم يتطرق إليها الكسب المادي سلفاً، فهذا جزء من الحقائق.

وبعد فترة وجيزة من انطلاقتها السريعة، لمحنا تدريجياً تطبيعاً إعلامياً مع العدو الإسرائيلي باستضافة بعض رموزه باسم حرية الرأي والتعبير وغيرها من المفاهيم الفضفاضة التي تجيّر لتنفيذ أجندات معينة وخفية أحياناً باسم هذه الحرية التي تقدم أحياناً قرباناً لمآرب أخرى.

ففي أواخر التسعينيات رُشحت من قبل المؤسسة الإعلامية التي عملت بها للمشاركة في مؤتمر عن حرية الصحافة في العالم العربي بالدوحة وأعددت ورقة عمل عن حرية الصحافة في الإمارات، لعرضها هناك، وكان ذلك أول احتكاك ميداني بـ«قناة الجزيرة» بوصفها النموذج الإعلامي الحر، وكانت زيارتها جزءاً من البرنامج المصاحب للمؤتمر، وكان مقرها آنذاك متواضعاً وقد أطلق عليه الرئيس المصري الأسبق مبارك «علبة كبريت» من صغر حجمه.

وفي أثناء انعقاد إحدى الندوات من معدي أحد البرامج الحوارية على الطاولة المستطيلة لكي يصطاد ضيوفاً معينين على مقياس برنامجه، حيث كان موضوعه عن «الحرية في الصحافة الخليجية» ولم يختر المعد باسم الحرية الإعلامية خليجياً واحداً للحديث في هذا الموضوع الخليجي لكي تعيش المصداقية على أوسع نطاق!

وجاءت أزمة قطر إلينا بهذه القناة، لكي تؤكد مرة أخرى عندما تحولت مائة وثمانين درجة نحو قطر للدفاع عنها فيما وقعت فيه من واقعة.

فكانت الحلقة عن «اختراق» وكالة الأنباء القطرية بناء على ما نشرته الـ«واشنطن بوست» فجاء الخبير من أميركا في البرنامج لكي يعبر عن رؤيته بكل حيادية وإنصاف وطلب من المُعد دقيقة واحدة قبل الدخول في الموضوع لتوضيح أمر مهم من خلال ما نشر في ذات الصحيفة الأميركية المشهورة.

فبدأ قوله هناك مغالطة يجب توضيحها وهي أن ما نشر في هذه الصحيفة لا علاقة له بالإمارات ولا هو دليل إدانة لرفعه إلى المحاكم الدولية كما هو مطروح في هذا البرنامج فهو خبر عادي لا يختلف عن أي خبر آخر في ذات الصحيفة ولو فتحت لي الصحيفة على الشاشة لثبت ذلك للمشاهدين بلا مواربة، فلم يكمل الضيف دقيقة حتى يهاجم مقدم البرنامج هذا الخبير قائلاً بأنك خرجت عن الموضوع بحجة أن «واشنطن بوست» مرفوع عنها القلم ولا تكذب في النشر أبداً فهو الدليل القاطع بلا منازع على الإدانة، ويبدو أن «قناة الجزيرة» جاء وضعها لتقف ضد الجزيرة ورب ضارة نافعة ولو بعد عقدين من الحين.