محمد المختار الفال

< مهما اشتطت الخلافات والنزاعات بين الدول المتجاورة فإنها لا تستطيع التخلص من منطق «الأرض» الذي يعاند أصحاب الأفكار الشاذة حين يحاولون «التحرر» من منطق التاريخ وحكم الجغرافيا، اللذين يشكلان جزءاً أصيلاً في ثقافة وصورة المجتمعات ونظرتهم لأنفسهم وموقفهم من المختلف.

ليس بإمكان السياسي، مهما كانت سطوته وآلياته وشطحاته، أن «يسلخ» الناس من ماضيهم التاريخي والثقافي المتراكم، كما لا يمكن للطامعين، القريبين والبعيدين، الأصدقاء والأعداء، أن يقفزوا على هذه الحقائق ليمحوا ذاكرة الشعوب وما وعته وحفظته من مكونات هويتها واعتزازها بنفسها وشعورها بكيانها المختلف عن الآخرين.

هذه المقدمة قد يراها البعض خارج السياق أو حيلة للهروب من الواقع وتجنب تسمية الأشياء بأسمائها، لكن أقول لهذا البعض ولذاك البعض الآخر، الذي يفسر الكلام على هواه، إنها في صميم الواقع، بل إن الواقع المرير الذي تعيشه المنطقة هو من نتائج المحاولات الفاشلة التي تصورت أنها تستطيع أن «تمسخ» الشعوب وتسلبها إرادتها وذاتها، وأن تحشو أدمغة وقلوب أبنائها بمفاهيم وتوهمات طارئة، لتنسيها ماضيها وقيمها وتاريخها.

في الأسبوع الماضي والذي قبله، انشغلت وسائل الإعلام بأخبار التقارب السعودي - العراقي، وما يبشر به من ترميم جسور التواصل بين البلدين الشقيقين الجارين، وكثر الحديث وتعددت التحليلات بحثاً عن منطق «ملامح المستقبل»، واختلفت الآراء حول دلالات زيارة رموز عراقية شيعية إلى السعودية، في ظل مناخ الاستقطاب الذي تمر به المنطقة، والذي فرض واقعاً جديداً بدوافع مختلفة. ولم يكن مستغرباً أن تظهر أصوات «متوجسة» مذكرة بأن بغداد منذ 2003 اتخذت وجهة متباعدة عن جسمها العربي، بتدبير السياسة الأميركية التي عملت على عزل العراق، ولم تعط محيطه العربي فرصة مساعدته على الخروج من حال الفوضى التي تورط فيها، بعد انهيار هياكل الدولة وتفكك المؤسسات العسكرية والأمنية، وقيام كيانات جديدة متشبعة بالنزعة الطائفية والعرقية.

ولكن هذا الخوف والارتياب المبرر من البعض، لا يستطيع إلغاء حقيقة متجذرة تاريخياً في أعماق هذا البلد وغائرة في مشاعر أهله ووعي نخبه وانتمائهم الأصيل للمكون العربي، وليس بإمكان أحد أن يلغي تلك الحقيقة المؤكدة أن العراق دولة عربية، وأن ارتباطها العضوي بالعروبة، الدين والثقافة والتاريخ والمصير المشترك، لا ينفصم، وسيمكن أهلها من تجاوز «الحالة الطارئة» التي تمر بها مهما تعقدت الأمور واختلطت الخيوط وتعاظمت أطماع الأغيار فيه.

 

ومن مصلحة الجميع أن يكون التقارب السعودي - العراقي بداية لإصلاح ما فسد طوال السنوات الماضية في جدار العلاقات العربية، وتتسع مساحة التفاؤل حين نستحضر أن السياسة السعودية معروفة باتجاهها الوحدوي الذي يجمع ولا يفرق، يبحث عن المشتركات «فيعظمها»، ويقدر الاختلافات ولا «يكبرها»، بل يعمل على تقليل تأثيرها السلبي في المجرى العام الذي يستوعب الجميع من دون أن يفقد الصورة العامة ثراء التنوع وقوة الترابط، وهذه السياسة، بروحها المتوازنة، هي التي أعطت السعودية المكانة المعروفة في محيطها العربي والتأثير الإيجابي في دائرتها الإسلامية، فكانت موضع احترام وتقدير الجميع ووسيطاً مقبولاً في كل المنعطفات الحرجة التي مرت بها العلاقات العربية.

وهذه السياسة التوافقية المستوعبة لمفهوم الاختلاف الطبيعي والصحي لا تعني - بأي حال من الأحوال - التخلي عن المبادئ والأسس التي قامت عليها، منذ تأسيسها على يد «العبقري» المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل - رحمه الله -، بل إن التمسك بتلك القيم والمثل والدفاع عنها هو الذي أكسبها ثقة عمقها الاستراتيجي ومجالها الحيوي، العربي والإسلامي، كما وفر لها فهماً كبيراً في الأوساط الدولية، ومكّنها من بناء شراكات استراتيجية قائمة على المصالح المتبادلة، من دون التخلي عن قيمها وثقافة أهلها وثوابت مبادئها.

وإذا كانت المنطقة العربية في هذه المرحلة تتعرض لاختبار «الإرادات» وتكتوي بنتائج الصراع بين قوى مختلفة يظن أهلها أنهم قادرون على فرض ما يريدون، فإن الحقائق الجوهرية والأسس الثابتة - بغض النظر عن تراجعها إلى الوراء في بعض الأحيان - تؤكد أن وحدة الدين والثقافة الجامعة والتاريخ المشترك هو الذي يوفر الوعاء الجامع لأهل المنطقة، وأي تيارات أو نزاعات تريد قطع الجسور وفصم العرى فلن تجلب لشعوب المنطقة إلا المزيد من التوترات والقلاقل وعدم الاستقرار. فالشعوب العربية رغم اعتزاز أهل كل بلد بالانتماء لوطنهم إلا أنهم يشعرون بوجود «حبل سري» يربط أهل كل قطر بأشقائهم على امتداد الخارطة العربية، ويخالجهم شعور بأن إضعاف أي بلد هو في المحصلة إضعاف للمجموع، ولهذا ظل «المزاج العام» مزاجاً وحدوياً حتى في ظل الخلافات السياسية الناتجة من الظروف العابرة، وقد أثبتت التجارب أن الشعوب العربية، بروحها الوحدوية، وشعورها الجمعي كانت دائمة «الوعاء» المحافظ على المصالح الكبرى والضامن لاستمرار قنوات التواصل.

ويحمد للأنظمة العربية، بكل توجهاتها وعلى امتداد تاريخ نزاعاتها واختلافاتها وحملاتها السياسية والإعلامية، أنها لم «تحرض» شعوبها على الدخول في خطيئة الإساءة إلى المجتمعات، بل كان الإعلام الرسمي في حمأة الخصام والسباب يتجنب الإساءة إلى الشعوب، لقناعة الجميع بأن وحدة الشعور هي الباقية وأن الاختلافات زائلة بزوال موجدها.

والدول العربية ومجتمعاتها، في هذه المرحلة، أحوج ما تكون إلى استحضار هذه الحقائق الراسخة والوقوف مع من يدافع عنها ويحميها من مخاطر تعريضها للعطب، والمملكة العربية السعودية حين تفتح أبوابها للعراقيين، رغم ما يعرفه الجميع من إساءات، فإنها تعيد للأذهان قيمة التمسك بوحدة الكلمة وتعظيم فوائدها على أمن الأوطان وسلامة الشعوب ومواجهة «تيار الكراهية»، الذي يخلط الوطنية بالعرقية بالطائفية ليبرر أخطاءه الكارثية.

النخب الواعية المستشرفة للمستقبل هي التي تعرف للوطن قيمته ووزنه وحضوره وتأثيره في مجاله الحيوي، وتعمل على تعميق هذا الدور ليبقى وطناً مركزياً قائداً في محيطه شريكاً فاعلاً في شؤون إقليمه ولاعباً مؤثراً في القضايا الدولية.