خالد بن حمد المالك

هل تتذكرون قطر حين كانت واحة حب وسلام، لا نكاد نغيب عنها، حتى نجد أنفسنا مدفوعين للعودة مسرعين لها، فهنا الراحة والشعب المضياف، وهنا الدولة المسالمة، حيث الأمن والاستقرار، لا تتدخل الدوحة بشؤون الدول الأخرى، ولا تتآمر على غيرها، وهمّها أن تكون على وفاق وانسجام مع الجميع، وكانت تستمد قوتها ومكانتها المرموقة من هذه السياسة المعتدلة والمتوازنة، وكان اسمها الجميل يتردد، فلا تذكر إلا بالخير، ولا يقال عنها إلا ما يرفع رأس المواطن القطري، ويجعله شامخاً وفخوراً ومعتداً أن تكون هذه هي صورة هذه الجزيرة الصغيرة، قبل أن تتغيّر النفوس، أعني قبل أن تُغيّر الفلوس النفوس، فترتد قطر عما كانت عليه، وتودّع ماضيها الجميل الذي كانت تُحسد عليه.
* *
يكدّر خواطرنا أن نرى هذا التراجع السريع في قطر، أن يشوّه تاريخها، وأن يتم العبث باسمها، فهذه حماقات وجنون وتهور لا يقدم عليها العقلاء، وهذه انتكاسة كبيرة لا يمكن القبول بها، فقد كانت قطر حبنا الكبير، قبل أن يأتي من يجرّها إلى ما هي عليه الآن، في تحد لمشاعرنا، وقبل ذلك لمشاعر أهلنا في دولة قطر الشقيقة، وكأنها مؤامرة خطيرة تستهدف أول ما تستهدف قطر ومواطنيها، وكأنها تفصّل الآن لتكون الدولة الإرهابية الأولى في منطقتنا بمقاساتها ومواصفاتها الجديدة، فلا يُكتفى بما هو قائم الآن، وإنما توسيعه وتكبير رقعته ليكون الإرهاب والعنف والتطرف والتحريض في منطقتنا هو الأول على مستوى العالم، منطلقاً من الدوحة وبلا منافس، ومن غير وجود من هو قادر على أن يكرر التجربة القطرية، بحسب كل التحليلات المنصفة.
* *
كانت قطر أبيّة على العملاء والأعداء والدول والمنظمات التي تكرهنا وتحقد علينا، وكان خطاب الكراهية الإعلامي الذي يصدر الآن من قطر لا وجود له، ولا معرفة لقطر به، وكان كل شيء يسير في الشقيقة الصغرى بحسابات الربح والخسارة، فلا تقبل قطر إلا بالربح، وترفض الخسارة، لكن المعادلة الآن تغيرت تماماً، والمفهوم الآن اختلف عما كان عليه في الماضي، والفضل في ذلك للثلاثي؛ حمد بن خليفة، وتميم بن حمد، وحمد بن جاسم، فقد أكلوا طُعم الأعداء الذي قُدِّم لهم، وانخدعوا بما اعتبروه لصالحهم في علاقاتهم مع إيران، وتوصلوا إلى أن علاقاتهم بغير الخليجيين وغير العرب أصلح لهم، وأكثر فائدة في المنظور القريب والبعيد، ولم يكتفوا بذلك، بل ذهبوا لما هو أبعد منه، فقد تبنوا الإرهاب والتطرف والعنف، واعتبروها سلاحهم ضد الأشقاء، ورصيدهم مع الإمساك بالأجنبي شريكاً وداعماً ومتعاوناً في المواجهات مع الأشقاء، دون أن يكون لها مبرر أو مصلحة لقطر.
* *
ومن المؤكد أنه لا توجد بين قطر وشقيقاتها ما يجعل الدوحة مدفوعة بأي سبب لأخذ هذه المواقف، خاصة وأنها قد كلفتها وسوف تكلفها الشيء الكثير، غير أنه التهور الذي قادها لتدفع بالخلافات إلى هذا المستوى، وتؤججه بتبنيها للإرهاب، وإصرارها على إرسال مؤشرات مستفزة لأشقائها عن نواياها العدوانية متى ما اكتملت الاستعدادات، وتم التنسيق مع شركائها في هذه المؤامرة، وخصوصاً وتحديداً مع الدولة الفارسية إيران، وهذا الاتهام لا يصدر من فراغ، وإنما يكاد يجمع عليه العالم، فهذا السيد مايكل موريل نائب مدير وكالة أجهزة الاستخبارات الأمريكية سابقاً يقول إن قطر تدعم بشكل واضح وصريح عدداً من الحركات التي صنفتها الولايات المتحدة الأمريكية بأنها «إرهابية» مثل حماس والإخوان المسلمين والنصرة، وأن الدوحة تلعب لعبة كبيرة، وكان حديثه هذا في برنامج حواري على قناة الـ»بي بي إس»، فنحن عندما نربط قطر بالإرهاب، فنحن لا نتحدث من خيال، ولا نقول عن قطر بما هي بريئة منه، كما أننا نريد بذلك أن نصل إلى مقارنة موضوعية بين ما كانت عليه الدولة الصغيرة وما وصلت إليه.
* *
وأمام هذه التطورات كيف لقطر أن تعود إلى ما كانت عليه، فتعيد حساباتها مع ما أظهرته نتائج تمويلها للإرهاب، وإيوائها للإرهابيين، وتشجيعها للعنف والتحريض من نتائج عكسية، في ظل المكابرة على أن ضرراً لم يلحقها، بينما هي تشتكي من هذا الضرر وتطالب بالتعويض، في تناقض يتفق مع سياسة الكذب والبهتان والإنكار المستمرة لكل ما توصف به من ممارسات شيطانية، وحجتها - على ما يبدو - أنها تلعب بما تعتقد أنها به تكسب وتفوز، مع أنها على موعد يتكرر مع خسارة في كل سياساتها، لأنها تقوم على الخداع والتضليل والافتئات على الحقائق، ولو كان بين المسؤولين القطريين رجل رشيد، وعاقل وحكيم، ويملك القرار، لما تأخر يوماً واحداً دون الطلب بأن تعود قطر فوراً إلى ما كانت عليه، متجانسة في ذلك مع الدول الشقيقة في سياساتها المقدرة على مستوى العالم.
* *
كانت قطر شيئاً آخر، يعيش مواطنوها في هدوء وراحة بال، قبل أن يقودها الشيخ حمد بن خليفة إلى حالة من التمرد على تقاليدها وثوابتها، وقبل أن يحولها إلى ما يشبه مستعمرة للمنظمات الإرهابية، ويطلق العنان لكل عدو لقطر ولنا، بأن يلحق الضرر بالدول الشقيقة، انطلاقاً من الدوحة، ما جعل تحجيم العدوان، والمؤامرات، والإرهاب، والتطرف، والتحريض، ضرورة تقتضيها مصلحة هذه الدول، فكانت هذه القرارات المصيرية والمفصلية ضد دولة قطر، وهي قرارات مؤلمة ما كان يخطر على البال أن تُتخذ ضد الشقيقة الصغرى، لو أنها الآن في سياساتها كما كانت قبل عشرين عاماً، ولكن مع تبدّلها، وتلوّنها، وخداعها، ومكرها، ومؤامراتها، تغيرت المواقف الأخرى، وكانت القرارات المضادة التي قلَّمت أظافر كل هؤلاء الذين يقودون هذه الحملات التآمرية ضد شعوبنا، بما نحسب أنها ستكون فاعلة ومؤثرة وقادرة على إحداث التغيير المطلوب في السياسة القطرية وصولاً إلى ما يخلي البلاد من أي عمل يشم منه رائحة حاقدة موجهة إلى دولنا.
* *
ولا بأس أن تعاند الدوحة لبعض الوقت، ويرفض أمير البلاد التسليم بالهزيمة، وأن يصر والده الأمير السابق أن قطر لن تعود دولة مسالمة كما كان هذا واقعها في سنوات مضت، فكل هذا التشبث بهذه المواقف لن يكتب لها الاستمرار، ولن تدوم كما يرى ذلك شيوخ قطر، فالمواطنون توّاقون إلى أن يشموا رائحة الماضي، حيث السكينة، والهدوء، والابتعاد عن الخصومات المفتعلة، توّاقون إلى مرحلة ما قبل عهدي حمد وتميم، عندما كان المواطن القطري يشعر أنه يمسك بالسلطة، لا كما يراه الآن من تسلط إيران وإسرائيل وتركيا والإخوان المسلمين وحماس وحزب الله والحوثيين وطالبان وغيرهم، ومن الأفراد القرضاوي وبشارة ومشعل، وغيرهم، وخاصة ممن يمسكون بإدارة وتوجيه قناة الجزيرة من العرب الحاقدين على كل ما هو سعودي أو خليجي؛ حيث يجدون الدعم والمساندة من نظام تميم لتفجير حقدهم وكراهيتهم في برامج سوقية، نربأ بوسيلة إعلامية على مستوى العالم أن تقوم بما تقوم به قناة الجزيرة، ولكن هذه القناة ليس لديها ولا عندها ما يمكن أن يوصف على أنه من المحرمات، فتمتنع عن وضعه ضمن برامجها.
* *
من المؤكد أن القطري حين يستذكر السمة التي كانت عليها قطر في الماضي سوف يشعر بالانتشاء والاعتداد والفخر، فهو سوف يستحضر كل الجماليات التي كانت عليها قطر، والمثاليات التي كان ينطبع بها المواطن القطري، والسياسات المعتدلة التي كانت تدار بها البلاد، فأين قطر اليوم مما كانت عليه في الماضي، رغم شح الموارد آنذاك، وضعف الإمكانات مقارنة بما هي عليه قطر اليوم، حيث الغاز والنفط والإيرادات العالية الآن، وقد تم توظيفها واستثمارها - مع الأسف - في الصرف على المؤامرات، وتبني الإرهاب ودعمه، واستقدام كل من يحمل الكراهية لنا، برواتب وامتيازات عالية، ومع ذلك فالإنكار، والتنصل من المسؤولية، وإعلان البراءة مما تتهم به الدوحة جاهزة لدى نظام تميم، الأمر الذي يجعلنا لا نعوّل كثيراً على حلول آنية أو قريبة لدى أمير البلاد، وإنما يكون انتظارنا وأملنا مصدره المواطن القطري الذي لن يقبل بأن تجر بلاده إلى المجهول.