‏ سليمان عبد المنعم

كانت ملاحظة ختام مقال الأسبوع الماضي، أن السياسات الإصلاحية التي تبنتها الدول الناجحة لم تعد من الأسرار أو الخوارق. لكن هذه السياسات الإصلاحية تحتاج إلي إصلاحيين. فهل يوجد في مصر مسئولون إصلاحيون؟ ليس في هذا التساؤل المسكون بنبرة الشك تحامل لأنه لو كان يوجد في مصر إصلاحيون تنفيذيون بالفعل لما وصلت أحوالنا إلي هذا الدرك لا سيما في المجالات التي لا تتطلب بالضرورة تمويلاً هائلاً أوموارد كبيرة.عرفت الدولة المصرية في ظل أوضاع سابقة شُح الموارد والاستهداف الخارجي وظروف اقتصاديات الحرب مع إسرائيل، لكن كانت أحوالنا مقبولة في التعليم والثقافة والقيم وانضباط الأسواق وحتي اللغة العربية! لم تكن أرض مصر مستباحة بتواطؤ حراسها في البيروقراطية الإدارية (باستثناء اليقظة الأخيرة للدولة لاسترداد ما كان أوشك علي الضياع)، ولم تكن القمامة تحط من شوارعنا هذا الانحطاط. بالطبع لم يكن الماضي وردياً ولا مثالياً لكنه لم يكن بهذا التدهور.

لست أشك لحظةً واحدة في أنه يوجد في مصر مسئولون لا تنقصهم الكفاءة ولا الإخلاص ولا النزاهة، لكني أشك كثيراً في وجود مسئولين قادرين علي تحمل تبعات الإصلاح ومواجهة تحدياته. لماذا يمتلك البعض الكفاءة ويفتقد الروح الإصلاحية؟ أتصور- ليس فقط عن تأمل نظري ولكن عن مشاهدات واقعية- أن ثمة تفسيرات لهذه الظاهرة/المعضلة. التفسير الأول أنه وبخلاف بعض الإصلاحيين هنا أو هناك، وهم الاستثناء النادر الذي لا يُقاس عليه، فإن عموم المسئولين يعلمون علم اليقين أسباب بل خفايا الخلل والتدهور والفساد في مؤسساتهم ومواقع عملهم لكنهم يدركون أن هذه الأوضاع تضرب بجذورها في أعماق المؤسسة وتستظل بأغصانها جماعات متمرسة من أصحاب المصالح، ولهذا لا يريدون أو بالأقل لا يستطيعون أن يدخلوا أعشاش الدبابير. ربما يقول البعض: «لقد فعلها غيري وندم» ولعلّ العبارة الصحيحة هي «فعلها غيري وفقد منصبه» هل معني ذلك أن هؤلاء ولو كانوا حسني النية يؤثرون المقعد والمنصب (بما لهما من إغراءات ومكاسب) علي حساب المصلحة العامة؟ ليس بوسعي ادعاء إجابة أو تعميمها لكن بوسعي القول إن لدينا مسئولين أكفاء تلازمهم مشاعر الخوف والتردد فيحجمون عن اتخاذ ما يتوجب اتخاذه من قرارات إصلاحية جذرية. وهكذا حلّت ثقافة إيثار السلامة محل الغيرة الوطنية علي المصلحة العامة. كم من جرائم ترتكب أحياناً بحق المصلحة العامة لكن المسئول الذي قد يكون نزيهاً يتكتم أمرها خوفاً من «الشوشرة» التي قد تعوق التطلعات. ليس دقيقاً ما يقال إن البيروقراطية أو القوانين واللوائح تكبّل هؤلاء، فقد رأينا نماذج إصلاحية ونزيهة تحدت البيروقراطية وجمود اللوائح لكن سلطةً لم تقترب منهم لأن أصحابها كانوا بحق فوق مستوي الشبهات. التفسير الثاني أن البيروقراطية الإدارية في مصر، قد اكتسبت بفعل الزمن والخبرة مواهب خاصة في تعويض فشلها الإصلاحي بالتفنن في تحقيق إنجازات مظهرية/ إعلامية فيما يشبه طب التجميل لا العلاج الحقيقي. وحين قال رئيس الجمهورية عبارته المدوّية «شبه الدولة» فلم أستغربها، كل ما هنالك أنني فهمتها علي أنها تعني أن لدينا شبه مؤسسات وشبه إنجازات وشبه إصلاحات، وأنا أصدق ذلك وأراه بنفسي. أما الدولة المصرية فهي راسخة لأنها تبقي برغم كل ما فيها وبها نموذج الدولة/ الأمة. لكن يظل الإصلاح الشكلي/ المظهري/ الإعلامي، بديلاً لدي الكثيرين عن الإصلاح الحقيقي وإلا فكم يتبقي لمسئول من وقت وجهد وصفاء ذهن لإصلاح حقيقي وجذري وهو متفرغ أصلاً لإصدار كل هذا الكم من التصريحات الإعلامية ويجنّد لنفسه (أو لنفسها) كل هذه الكتائب الإعلامية إلي حد اختيار الصورة والملبس «والبروفايل» التي توزّع علي مراسلي الصحف. لا أعرف كم يتبقي من الوقت للعمل الحقيقي وسط كل هذه الضوضاء الإعلامية التي قدرها أحد الخبراء بواقع عدة تصريحات في اليوم الواحد لإحدي الوزيرات بما فيها أيام العطلات الرسمية. هكذا بمرور الزمن تكرّس ما يمكن تسميته الإصلاح بالإيحاء. تحدّث ثم تحدّث ثم تحدّث عن الإنجاز حتي يصدقك الناس. تطلب هذا النوع من الإصلاح بالإيحاء احتراف فن الترويج الإعلامي أو امتلاك قدرات خطابية خاصة. والخطابة في مصر، برغم تدني مستواها، تمثل حكاية غريبة تبدأ من المدرسة والجامعة التي كانت أشهر مسابقاتها هي الخطابة. ولهذا تضاءل الطلب علي المسئول التكنوقراط الذي يخطط ويعمل وينجز في هدوء مقابل زيادة المعروض من المسئولين الخطباء أوالموهوبين في ترويج أنفسهم إعلامياً، ونظراً لتدني مستوي الخطاب باللغة العربية فقد باتت اللغة الإنجليزية بديلاً عنها. وهكذا تراجعت القدرات الإصلاحية الحقيقية مقابل ازدهار القدرات الكلامية والإعلامية. بالطبع هذا لا يقلّل من أهمية امتلاك المسئول لهذه الفنون والأدوات بشرط ان تكون قيمةً مضافة إلي قدرته الأصلية علي الإنجاز والإصلاح وليس القيمة الوحيدة بذاتها.

التفسير الثالث أن تيار الإصلاح قد ضعف وتراجع بقدر ما أصبح الإصلاحيون المفترضون أسري الحسابات والتوازنات الخاصة برد الفعل الاجتماعي الذي لا يتحمس بطبيعته لسياسات الإصلاح الجذري حين تتعارض مع ما ألفه وتعوّد عليه (التعليم نموذجاً). يتصور البعض أن «الوزير السياسي» وفق التعبير السائد هو الذي يجب أن يأخذ في الحسبان رد الفعل الاجتماعي المتوقع علي قراراته الإصلاحية. نعم هذا أمر مقبول ومطلوب في نوعية معينة من القرارات، التي تحكمها فكرة الملاءمة في التوقيت أو النتائج لكن تعميم هذا الاعتقاد وإطلاقه كفيل بأن يُجهض أو يؤجل إلي ما لا نهاية كل حركة إصلاح جذري. والأخطر أن يصل التردد أو الخوف من هذا الإصلاح بحجة رد الفعل الاجتماعي إلي حد ممالأة الرأي العام ونفاقه ومحاولة كسب رضاء شعبي مؤقت علي حساب ما يقتضيه الصالح العام.

ولهذا، فحين يصل الأمر مثلاً في منظومة تعليمية مأزومة ومتدهورة أصلاً إلي حد إنجاح طلاب لا يستحقون النجاح بأي معيار لأن المسئولين التعليميين لا يتحملون نسبة نجاح منخفضة خوفاً من رد الفعل الغاضب للطلاب ،فإننا نصبح أمام كارثة حقيقية. وجه الكارثة هنا، أننا حين نصطنع نسبة نجاح غير حقيقية فهذا لا يعني فقط أننا نرتكب جريمة غش قد ترقي إلي حد التزوير لكننا نتسم أيضاً بالأنانية والنفاق والانتهازية لكسب شعبية زائفة باسم مراعاة البعد السياسي، هناك إذن من يفهم خطأ تعبير المسئول السياسي. ليعني هذا التعبير ما يعنيه، لكنه لا يبرّر بحال التضحية أو الاستخفاف بالمعايير التي تصنع دولة ناجحة. باختصار: مضت كل الفرص وأوقات التجريب.هذا زمن الإصلاح المؤلم.