نجيب الخنيزي

معركة تحرير الموصل التي تعد ثاني أكبر مدينة في العراق بعد بغداد، وتصنف ضمن المدن العربية التاريخية القديمة الغنية بميراثها الحضاري والفكري والثقافي العريق، ناهيك عن حضورها المؤثر في المشهد السياسي منذ نشوء الدولة العراقية (1921) المعاصرة، وما أسفرت عنها من دحر وهزيمة فادحة لتنظيم «داعش» في مدينة الموصل التي أعلن فيها البغدادي قيام دولته الإسلامية المزعومة، يعد إنجازًا مفصليًا للجيش العراقي والأجهزة الأمنية، والفصائل العسكرية العربية والكردية، المدعومة من قبل قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.

ومع أنه من المبكر جدًا اعتبار تحرير الموصل نهاية وشيكة لهذا التنظيم الدولي الإرهابي الخطير، حيث ما يزال يتمتع بسيطرته ونفوذه في مناطق مهمة في العراق وسوريا، ناهيك عن جيوب قوية له في ليبيا ومصر واليمن وأماكن أخرى، إضافة إلى خلاياه المنتشرة في بقاع عدة من العالم، ومع أهمية العامل العسكري والأمني الذي وجه ضربة قاصمة للتنظيم، غير أن المواجهة تستدعي في المقام الأول استمرار تضافر الجهود المحلية والإقليمية والدولية لمحاصرته، وتجفيف محاضنه الاجتماعية والفكرية والمادية، والعمل على خلق بيئة سياسية - مدنية سليمة تتجاوز الهويات (الطائفية، المذهبية، الإثنية، القبلية، الجهوية) القاتلة مما يتطلب إرساء دولة القانون والمؤسسات المستندة إلى المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات للجماعات والمكونات كافة، إلى جانب تثبيت أسس العدالة الاجتماعية، والتنمية المتوازنة وخصوصًا في المناطق المهمشة.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل الوضع العراقي الحالي الذي يقوم على نظام المحاصصة الطائفية والإثنية قادر على تلبية هذه المتطلبات؟

بطبيعة الحال لا أحد يجادل في أهمية إنجاز تحرير الموصل، الذي يرجع الفضل الأول والأخير فيه إلى التضحيات الجسام والدماء التي بذلت من قبل العراقيين على اختلاف منحدراتهم وانتماءاتهم الطائفية والمذهبية والعرقية.

هذا الإنجاز، لا يعني تجاهل العوامل والأسباب التي جعلت من العراق الشقيق، الغني بتراثه الحضاري وبثرواته الطبيعية والبشرية الهائلة مثالاً للدولة الفاشلة، التي ينخرها الفساد والمحسوبية، والصراع على تقاسم السلطة والثروة، وتجاهل أبسط المطالب العادلة والمشروعة للناس، الأمر الذي سهل السيطرة السريعة لداعش على مناطق شاسعة من العراق، وهنا يتعين وضع الفأس عند الجذر!

من أبرز التحديات التي تواجه العراق ما بعد الموصل هو استعادة الوحدة الوطنية المفتتة بعيدًا عن نظام المحاصصة المذهبية والإثنية الذي كرسه الاحتلال الأمريكي للعراق من خلال الحاكم المدني الأمريكي بريمر، الذي شكل مجلس الحكم الانتقالي وفقًا للمحاصصة المذهبية والإثنية، ثم ثبت في الدستور العراقي، وهو ما أتاح لتلك الزعامات على اختلافها وتناقضاتها الفرصة لتقاسم الغنيمة في السلطة والثروة، وذلك على حساب أغلبية الشعب العراقي من المكونات كافة الذي عانى الأهوال طيلة العهود السابقة، وتفاقمت أوضاعه بشكل كارثي (على الصعد الأمنية والمعيشية والصحية والتعليمية) إبان الاحتلال الأمريكي وما أفرزه من نظام المحاصصة المقيت وخصوصًا في عهد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الذي رسخ انتشار الفساد والمحسوبية بشكل غير مسبوق حيث ذهبت مئات المليارات إلى جيوب المتنفذين وأعوانهم في السلطة، وإلى زعماء الطوائف والميليشيات المسلحة.

من هنا نفهم ظاهرة مقتدى الصدر في المشهد العراقي، ومع أنه جاء من قلب المؤسسة الدينية العتيدة، وكونه ابن أحد كبار المراجع الشيعة غير أن تكوينه السياسي - البرجماتي، والتصاقه بقاعدته الشعبية الفقيرة في غالبيتها الساحقة، جعله يتمرد على الطبقة السياسية الفاسدة ويدعو للانتفاض عليها، وكان لافتًا منظر خروج مئات الآلاف من العراقيين على اختلاف منحدراتهم إلى الشوارع والساحات تحت شعار «باسم الدين سرقونا الحرامية».