محمد علي فرحات

حين طوّر دونالد ترامب تصريحه المخفف حول مسيرة القوميين البيض في شارلوتسفيل ليعلن بوضوح أنه ضد العنصريين وأنهم «مجرمون وقطّاع طرق»، بدأ بذلك الخطوة الأولى في التراجع عن مسار العنصرية الذي قاده إلى البيت الأبيض. وربما ينهي ترامب عهده قبل أن يستطيع إصلاح ما أفسد شحنه العنصري، فيورث رئيس أميركا المقبل هذه المشكلة.

ليس ترامب وحده من يضطر إلى الانقلاب على الوسائل التي تؤسس زعامات أو تحفظ مكانتها، فهذا ينسحب على قادة دول وأحزاب في دول متقدّمة وأخرى نامية. وغالباً لا يستطيع الزعيم التنكُّر لمن أوصلوه إلى مقامه العالي فيصبح أسيراً لهم ويسلك دروباً تؤدي إلى تفكيك المجتمع أو انهيار الدولة إذا كان على رأس حكمها.

إنه الجدار المعنوي الفاصل بين الولايات المتحدة والمكسيك، ومثله أكثر من جدار يفصل بين شعوب أو أديان أو طوائف أو قبائل أو بلدات أو عائلات أو حتى بين الإخوة.

في جانب آخر من عالمنا، اضطر رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى لجم المتطرّفين الهندوس الذين يشكّلون قاعدة حزبه «بهاراتيا جاناتا». وصل الزعيم المتعصّب إلى مفترق حرج بين مواصلة تقدُّم بلده الاقتصادي المستند إلى علمنة الدولة والعراقيل التي يتسبب بها أنصاره في هجماتهم على المواطنين المسلمين والأقليات الأخرى، وما تفرض إدارته من رقابة طائفية على نخب المسلمين فتربك عملهم وتضعهم في موضع المشكوك في ولائه.

سيجد مودي صعوبة في الحد من تجاوزات أنصاره الهندوس، وربما يحتاج تطبيع العلاقات بين الجماعات الهندية إلى وقت يتجاوز الفترة التي استغرقها شحن العصبية الهندوسية بهدف التغلُّب على «حزب المؤتمر» الذي قاد الهند منذ الاستقلال قبل 70 سنة وحرص على أن يكون رئيس الجمهورية الذي يتمتع بسلطة رمزية، مسلماً.

ولا ينحصر الفضل في وصول مودي إلى الحكم في شحن العصب الهندوسي، فقد ساهمت باكستان في ذلك، لأن الحاكمين في إسلام آباد الذين يحتفلون أيضاً بالاستقلال (أي انفصالهم عن الهند الكبرى) استسلموا إلى الجماعات الإسلامية المتعصّبة التي استنهضت أشباهها في الهند. وقد تراجعت باكستان عن مستوى «شقيقتها» الهند، ودخلت في نادي الدول الراعية للإرهاب، خصوصاً بعدما شكلت حركة «طالبان» للتحكُّم في مصير جارتها أفغانستان. لكن الإرهاب الطالباني ارتدّ عليها وبالاً من التفكُّك الاجتماعي والسياسي والتأزم الأمني وتراجعاً في الوضع الاقتصادي. تأسست باكستان عام 1947 كدولة دينية إسلامية أطاحت الهند التاريخية، ومنعتها، بالتالي، من الدخول في نادي الدول الكبرى. تماماً كما تأسست إسرائيل بعد ذلك بسنة (1948) كدولة يهودية تمنع اتصال مشرق العالم العربي بمغربه وتربك تطوره مجتمعات ودولاً. حدث ذلك بفضل التعصُّب الديني و «منافعه» السياسية التي رعتها بريطانيا، الدولة المستعمرة آنذاك.

بدأ مودي رحلة العودة إلى علمانية الهند، لكن حكّام باكستان يحتاجون وقتاً طويلاً للقضاء على الإرهاب في بلدهم ليعاودوا منافسة الهند في التطور السياسي والاقتصادي.

للهند وباكستان مشكلتان تكوينيتان تحتاجان إصلاحات كثيرة، ولن تستطيع الدولتان استعادة وحدتهما أيام الاستعمار البريطاني. ذلك يحتاج إلى معجزة لا مكان لها في عصرنا. لكن الراهن في دول العالم اليوم أن التعددية، كشرط أساس للتقدُّم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بدأت تتراجع تحت وطأة الزعامات الشعبوية وتسييس الدين وانهيار الثقافة الإنسانوية.

وحتى الثورات تفشل في الخروج من الانسداد السياسي الذي يرعاه الديكتاتور أو الحزب المهيمن، فعلى الأغلب تتعرض الثورة نفسها إلى التفكُّك والصراع الداخلي، ولا ينقذها مثقفون رعوا انطلاقتها ثم تركوها نهباً لشعبوية وعصبيات دينية وطائفية وجهوية تستدعي قوى مما وراء الحدود لإبقاء الوطن في نزاع دموي.

العالم في مفترق، والمتحكّمون بمصيره دون مستوى المسؤولية. عالم صغار يقودون صغاراً، وشحن عنصري يتحكّم بالكائن البشري من مهده إلى لحده.