موسى برهومة

عندما كنا صغاراً، وكان العالم صغيراً أيضاً وأكثر براءة مما صار عليه، كنا نذهب مساء كل يوم، إلى بيت الجيران، لنشاهد مسلسلاً بالأبيض والأسود لحسني البرزان (نهاد قلعي) وغوار الطوشة (دريد لحام) عنوانه «صح النوم». وكان حسني البرزان الذي يؤدي دور الفهيم يردّد على مسامع «غوار» الأبله: إذا أردت أن تعرف ماذا في إيطاليا، فعليك أن تعرف ماذا في البرازيل.

ويصلح هذا «القياس» على كثير من أحوال الحياة. وكان جديراً أن يُستدعى هذا المثال في الآونة الأخيرة غداة مرور أيام على واقعة النادي الفيصلي الأردني الذي خسر أمام نادي الترجّي التونسي، في نهائي البطولة العربية، بسبب سوء تقديرات الحكم المصري وعدم أهليته وظلمه، فما كان من جمهور النادي ولاعبيه وإدارييه إلا أن عاثوا فساداً وشغباً وضرباً وتحطيماً في مدرجات ستاد الاسكندرية التي انتزعت من مكانها وألقيت في ساحة الملعب، وتم في أعقاب ذلك اعتقال 38 شخصاً من هؤلاء أفرج عنهم بوساطة ديبلوماسية.

لم يُحاسب النادي ولاعبوه وإداريوه الذين أمطروا الحكم ضرباً ولكماً أمام كاميرات التلفزة على الهواء مباشرة، وصارت الفضيحة معولمة، فحوّل الفريق الأردني خسارته، التي كان بمقدوره، بقليل من الصبر والحكمة، أن يجعلها منصة للتضامن معه، إلى حدث فاحش اقتضى فرض غرامات وعقوبات عليه مع حرمانه من اللعب في البطولة 5 سنوات. اتحاد كرة القدم الأردني أصدر بياناً خجولاً امتدح فيه بطولات الفريق، وذكر في سطر يتيم أنّ «الأحداث الخارجة عن النص التي أعقبت المباراة النهائية لا تمت بصلة للأخلاق والعادات الأصيلة التي نتباهى ونفخر بها».

ولم يكن مستهجناً، البتة، أن تفجّر هذه القضية السجال حول القانون والأنظمة وضرورة مراعاتها. بل راح عديدون يعتبرون الاعتداء على الحكم قصاصاً عادلاً ومباشراً، وأنّ الحق يتعين أن يُستعاد بالقوة، فلا نتقدم بشكاوى إلى الاتحاد العربي، ولا نتتظر لجان تحقيق. أخطأ الحكم، فعلينا أن نلقّنه درساً ونؤدّبه وننهال عليه لكماً وضرباً وشتماً ونطحاً. وعلى مقاعد المتفرجين ألا تبقى في مطارحها، إذ يجدر بنا تحطيمها، ولو كان بمقدورنا أن نشعل المنصة لفعلنا. المهم ألا تغمض عيوننا على ضيم!

تلك حال الأردن منذ زمن بعيد. المصيبة أنّ هذه «الأخلاقيات» خرجت للعلن وشاهدها الناس في جميع أنحاء المعمورة، ووثقتها ذاكرة «يوتيوب» إلى الأبد.

هكذا مضى الحدث بكل سلاسة، كأنه جزء من «العادات الأصيلة». وتلك معضلة المعضلات في بلد لا يعتقد معظم مواطنيه أنّ القانون وجد لينظم حياة الناس، ويحقق العدالة والإنصاف للجميع. وقد ساهم ذلك في تشكيل عصبية عابرة للحدود العشائرية، فصارت جزءاً من الأنفة والنزق والغطرسة الوطنية. لذا ليس حدثاً كوميدياً أن يحشد نائب في البرلمان أنصاره لملاقاة نائب في الكنيست الإسرائيلي من أجل منازلته قرب جسر الملك حسين، مخاطباً إياه «إذا كنت رجلاً فلاقيني الساعة العاشرة من صباح الأربعاء»!

لهذا تستعاد حكمة «صح النوم»: إذا أردت أن تعرف ماذا يجرى في الأردن، فعليك أن تتابع أداء البرلمان، والفرق الرياضية، وتسأل العارفين بخبايا الأمور: كم مرة تم تبديل مقاعد الجمهور في الملاعب، وكم مرة أحرقت، لاسيما إذا كانت المباراة بين الفيصلي والوحدات. ومن شاء الاستزادة فليسأل كيف تحول حوار برلماني إلى قتال بالكلاشنيكوف في أروقة مجلس الأمة قبل أربعة أعوام، أو كيف أشهر أحد النواب مسدسه في برنامج تلفزيوني حواري على الهواء مباشره ليهدد به خصمه السياسي.

في الجعبة الكثير من أحداث مشابهة. بيد أن ما يثير الخشية والذهول أنّ التعامل معها يتم بمعزل عن القوانين الرادعة التي لها وقع كبير وجلل لدى أغلب المواطنين في الدول، إلا الأردن الذي يفخر أبناؤه كباراً وصغاراً بترديد عبارة «رأس مالك فنجان قهوة»، في إشارة إلى أنّ أفظع المصائب تحل بعطوة عشائرية قصيرة، يحتسي بعدها المدعوون فنجان قهوة سادة، فينتهي الخصام ويحل الوئام» و «يا دار ما دخلك شر»!


* كاتب وأكاديمي أردني