نديم قطيش

ضجيج الصراخ الإيراني ضد إسرائيل يحجب الرؤية عن أوراق الاعتماد التي تقدمها إيران لكل من إسرائيل والولايات المتحدة. لا يشذ عن هذا التوجه حتى ميليشيا كحزب الله، قامت كل «أسطورتها» على مقاتلة إسرائيل ومعاداتها وتدبيج الخطابات بحقها.

أبدأ من حزب الله وأعود إلى إيران. بين مبررات دخول ميليشيا حزب الله إلى سوريا الكثيرة، والتي تغيرت مع مختلف مراحل الحرب في سوريا، كان مبرر «مواجهة إسرائيل» و«حماية ظهر المقاومة». 

مبرران مركزيان يعود إليهما حزب الله كلما دعت الحاجة، غير أنه في الواقع، لا واجه إسرائيل ولا حمى ظهر المقاومة كما ادعى. فالحدود الإسرائيلية السورية محمية بتفاهم أميركي روسي في جنوب وجنوب غربي سوريا، بشكل يمنع المواجهة الفعلية ويُبقي منها على خطابها ولغوها. ولا هو نجح في حماية المقاومة، كما يُظهر بوضوح كشف قائد سلاح الجو الإسرائيلي عن نحو مائة استهداف لحزب الله في سوريا خلال السنوات الخمس الماضية، لم يرد حزب الله على أي منها!

نجاح حزب الله الوحيد في سوريا هو تدميرها على رؤوس أهلها، انسجاماً مع الوعد الأسدي الواضح «الأسد أو نحرق البلد».
وما إن شعر حزب الله أن عملية إنقاذ الأسد قد قطعت شوطاً، بعد تدخل موسكو المباشر، حتى ذهب حسن نصر الله في خطابه الأخير إلى الاعتراف بمصالح إسرائيل في سوريا، وهو تموضع ذكي وجريء، تحميه خصال قيادية عند نصر الله لا خلاف على استثنائيتها، بحيث إنه يقدر على أخذ جمهوره إلى حيث يريد من دون كثير خوف أو ارتباك.

في خطابه الأخير قال نصر الله بالحرف:
أميركا اليوم تفاوض روسيا على مصالحها ومصالح إسرائيل في سوريا. بالنسبة لأميركا هم يعلمون أن اللعبة قد انتهت.

اللعبة التي يشير إليها هي لعبة إسقاط نظام الأسد، وهي ما إن انتهت، بحسب رأيه، حتى بات ممكناً «تفهُم» المصالح الإسرائيلية والأميركية في سوريا، من دون استنفار أو اعتراض. لم ينتفض نصر الله في وجه الروس لرعايتهم تأمين المصالح الإسرائيلية في سوريا، بل بدا في أعلى درجات البراغماتية وهو يقبل بهذه المصالح طالما أن إسقاط الأسد لم يعد مطروحاً. وهذه ورقة اعتماد لإسرائيل تلاقيها ورقة أخرى في لبنان هي التصريح العلني بأن الحزب غير مهتم بالحرب مع إسرائيل، وأنه إذ يجمع السلاح، فتحسباً لخطأ في الحسابات عنده وليس عنده.

على الجهة الإيرانية، لا حاجة للتنقيب عن أوراق الاعتماد المقدمة لأميركا، فهي أكثر من قدرة المراقب على إحصائها. الأخيرة بينها تصريح لأمين المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران علي شمخاني قال فيه:

العملية الأخيرة في عرسال بينت الإرادة الجادة لحزب الله لتطهير المنطقة من دنس الإرهاب.

نظر من يلفت شمخاني، إلى الإرادة الجادة؟! الأرجح أنه يقدم بلاده وميليشياتها باعتبارها شريكة للعالم في مكافحة الإرهاب، ويجتهد لتذكير هذا العالم أن ثمة مصلحة في الاستثمار في جهود إيران في هذا المجال، بدل استعداء الجمهورية الإسلامية وخسارة إمكاناتها «وإرادتها الجادة» في الحرب. حتى نصر الله في رده على الرئيس الأميركي دونالد ترمب، عاب عليه جهله، وحرص على تذكيره بأن «حزب الله موجود في الحكومة اللبنانية»، التي هي وواشنطن «شركاء في الحرب على الإرهاب». كأن لسان حاله يقول: أنتم تريدون محاربة الإرهاب وتخلطون على نحو خاطئ بيننا وبين «داعش» و«النصرة» و«القاعدة» فيما نحن، في الواقع، شركاء لكم في الحرب على الإرهاب من داخل الحكومة اللبنانية!

إنها لعبة مزدوجة تدار بعقل مثابر، بارد لا يتوقف أمام الأثمان البشرية المرعبة والتي أنتجت ملايين القتلى والنازحين والمهجرين في المشرق، عدا عن التدمير الممنهج للمدن والحواضر والبنى التحتية.

في العراق سلم نوري المالكي الموصل لـ«داعش»، ثم حررتها إيران، من أهلها أولاً، ثم «داعش»، عبر خليط من الجيش النظامي وقوات الحشد الشعبي، أي الميليشيات الإيرانية التي وجدت طريقها إلى بنية النظام العراقي. حزب الله يلعب لعبة مشابهة. يحمي سلاحه بالخطاب المناهض لإسرائيل، ويستظل بشرعية الحكومة بفعل هذا الخطاب، لكنه عملياً ينخرط في توسعة النفوذ الإيراني في المنطقة على حساب الدول العربية وليس على حساب إسرائيل التي يتفهم ويراعي مصالحها. ليس جديداً أن الاثنين يشعلان الحرائق ثم يقدمان الماء للمجتمع الدولي لإطفائها. تعلما الدرس جيداً من حافظ الأسد، وتفوقا عليه.

الجديد هو العلنية في تقديم أوراق الاعتماد لإسرائيل وأميركا. فما قاله رامي مخلوف، يوماً في صحيفة «نيويورك تايمز»، في بداية الأزمة السورية عن الترابط بين بقاء الأسد وأمن إسرائيل يقوله اليوم حسن نصر الله علناً وبلا أي ارتباك:

لا تقتربوا من الأسد، وسنجد طريقة للتفاهم على مصالحكم في سوريا، ونتفهم أن تتفهم موسكو نيابة عنا هذه المصالح وترعاها.
وبين الحين والآخر اسمحوا لي أن أُطرب جمهوري بهتافات الموت لإسرائيل، لكن لا تقعوا في الفخ الواقعين هم فيه.
لا تصدقوا الهتافات.