إيلي الحاج

يقول المثل العامي "اللي صار صار" تعبيراً عن رغبةٍ في تحاشي مواضيع أثارت خلافات في الماضي والأفضل عدم العودة إليها، تجنباً لنكء جروح، أو للخوض في معلومات وأسرار دقيقة بدلالاتها وانعكاساتها على الحاضر . إلا أن الحقيقة أو ما تيسّر من معطيات للباحثين عنها يجب ألا تخفى إلى الأبد. وفي الوضع اللبناني، بدا لمدة أن الجميع ضربوا صفحاً عن أحداث سياسية مهمة جداً جرت وراء الكواليس وأوصلت إلى أن يكون رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وليس رئيس "تيار المردة" النائب سليمان فرنجية. هذه المقالة محاولة إضاءة.


تقول المعلومات إن الاختلاف في وجهات النظر الذي بلغ أوجه الرئيس سعد الحريري ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع مطلع تشرين الثاني 2015 على ترشيح فرنجية للرئاسة سبقته مشاورات طويلة بين الحليفين السابقين، تلمساً لمخرج من المأزق الذي تسبب به تمسك "حزب الله" بترشيح العماد عون وحده لا غير للرئاسة وتعطيله النصاب القانوني للانتخاب 33 مرة، قبل أن يشيع نبأ اجتماع الحريري مع فرنجية.

كان جعجع متشبثاً بفكرة استمراره في الترشح للرئاسة ورفضه تقديم قوى 14 آذار (سابقاً) أي مرشح آخر بديل منه سواء من الشخصيات المنضوية إلى "الحركة السيادية" أو "وسطية" من خارجها. بنى الرجل حساباته تلك على أنه الوحيد القادر بترشيحه على الحؤول دون انتخاب عون والمنطق يقول بألا ينسحب إلا مرة واحدة عند توصل فريقي النزاع إلى اتفاق على مرشح توافقي. يروي رواة وهم يستذكرون تلك الحقبة أنه في إحدى زياراته للرياض عام 2015 قبل طرح اسم فرنجية للرئاسة علناً بأشهر كان جعجع أول من عرض الفكرة في سياق جلسة مشاورات طويلة استغرقت الليل بطوله مع الحريري، ولم يتركا مع المشاركين في ذاك الاجتماع احتمالاً إلا ناقشاه لإنهاء الفراغ الرئاسي. عرض جعجع بحسب الرواية الأوجه الإيجابية لاقتراحه، خلاصتها أن فرنجية يمكن الأخذ والعطاء معه وكلمته كلمة، نعم نعم لا لا، وأن تأييد ترشيحه يُحدث فجوة في جدار "8 آذار" الصلب. وأما السلبية فهي أنه صديق رئيس النظام السوري بشار الأسد ولكن يمكن حصر أضرار هذه الصداقة على لبنان بالتكاتف والتضامن في ما بين "الحلفاء" وباللجوء إلى ضغوط خفية أحدها الرأي العام اللبناني الواسع والرافض لعودة العلاقة الوثيقة بين لبنان الرسمي وسوريا النظام الحالي. وأما رد فعل الشارع الـ"14 آذاري" على ترشيح هذه الشخصية المعتبرة من قلب "قوى 8 آذار" فيمكن استيعابه بحسن استخدام الإعلام وشرح الموقف.

تذكر المعلومات أيضاً أن الحريري لم يتجاوب مع الفكرة، لكنه اتفق وحليفه المسيحي على "جس النبض". وأن جعجع كان سبق أن فتح خط اتصال غير مباشر مع فرنجية قبل مفاتحة الحريري بالموضوع، لكن هذا الخط توقف بعدما اصطدم بطلب جعجع ما يمكن تسميته "ضمانات" تتمثل في مواقع رئيسية ودقيقة وحساسة في الأجهزة والأسلاك التابعة للدولة كما في مجلس الوزراء كي يطمئن قلبه إلى امتلاكه حق وقف قرارات قد لا تلائم "القوات" وحلفائها في "14 آذار". بعد انتهاء تلك المحاولة قرر الحريري أن يجرب حظه مع فرنجية والتقاه في باريس وتسرب الخبر إلى بيروت وأثار إرباكاً. ثم كان ما كان من ترشيح الحريري لفرنجية ورد جعجع بترشيح عون في معراب.

لكن أغرب ما حدث في تلك الحقبة الساكنة ظاهرياً والملأى بالتطورات كان أداء مسؤول مؤثر في دولة عربية معنية بالشأن اللبناني،. سأله الحريري: سأرشح فرنجية ، هل أنتم موافقون؟ أجابه المسؤول: نعم. هل تفضلون أن نرشح غيره؟ أجابه: لا. فطلب الحريري عند ذلك مساعدة الدولة العربية لئلا يرفض جعجع ترشيح فرنجية أو يرشح عون، وكان الجواب : حسناً.

بعد ذلك اتصل جعجع بالمسؤول العربي المؤثر نفسه وسأله: سأرشح عون، هل أنتم موافقون، فأجابه: نعم !
وكان الضغط قوياً لإمرار انتخاب فرنجية خصوصاً في شهري تشرين الثاني وكانون الأول 2016، و"القوات" والكتائب و"التيار الوطني الحر" وشخصيات مسيحية أخرى تعاند، فيما "حزب الله" صامت كأبي الهول. واتصل فرنجية في شكل غير مباشر وغير رسمي بالدولة العربية المؤثرة وطلب المساعدة لئلا يتخلى الحريري عن تأييد ترشيحه ويتبنى ترشيح عون، فوافقت بشرط أن ينزل فرنجية وكتلته النيابية إلى جلسات الانتخاب، وأن يحدد موعداً لانتخابه، وكان الجواب أنه يتوقع انتخابه رئيساً في كانون الثاني 2017. إلا أنه عدل عن رأيه نتيجة إصرار "حزب الله" على المقاطعة . وكان اكتفى بإرسال سنونوة واحدة لم تصنع ربيعاً: االنائب اسطفان الدويهي الذي حضر إلى جلسة الإنتخاب في 26 أيلول.

يشرح الرواة أن الشق السياسي كان الأهم في الاتفاق مع فرنجية. وأبرز ما فيه ألا تخرق الدولة اللبنانية الإجماع العربي وإن كان يمس بإيران، على سبيل المثال، وتصحيح بوصلة العمل الأمني في محاربة الإرهاب والتمسك بموقف لبنان "النأي بالنفس" في الملف السوري، وبعد ذلك تحسين العلاقات بحزب "القوات"، وهذه نقطة كانت محلولة. فوق ذلك يدعم العرب، الخليجيون خصوصاً، لبنان في المال والاقتصاد. والأهم بالنسبة إليهم، عدم تغطية أي نشاط ل"حزب الله" في الخليج.

يمكن اعتبار أن بعض هذه المرويات صحيح، وبعضها تنقصه إضافات. أما ما يستدعي التوقف عنده فهو تأكيد سياسي بارز ، ولا تربطه علاقة ودّ بجعجع، أن رئيس "القوات" لم يؤيد فكرة ترشيح فرنجية ولا مرة، وإن فعل مرة، خلافاً لمعلومات السياسي، فمن باب التكتيك حتماً. بل كان رأيه أن فرنجية يعيد النظام السوري إلى لبنان.