التشوّق لاستعادة الدولة وظائفها السيادية: معطى حيوي في عالم عشوائي

وسام سعادة


نسير في عالم يتخبط بشكل عشوائي. بالنسبة الى بلد صغير كلبنان تفرض «عشوائية العالم» تحدّيات إضافية كلّ يوم. لا سيّما أنّ «عشوائية العالم» تتفاعل بشكل خطير مع استفحالة انعدام التوازن بين المشروع الهيمني الفئوي الذي يقوده «حزب الله» وبين باقي القوى والمكوّنات،

وتراجع قدرة القوى الأخرى لجهة تجسيد المثل التي رفعتها مطولاً في مواجهة هذا المشروع. مع هذا، لا تترك الفئات الأوسع من الناس مناسبة لإظهار تفضيلها لمنطق الدولة إلا وتنحاز إليه، والإلتفاف الشعبي حول الجيش اللبناني وسلاح الشرعية، في عمليته بالجرود، هو معطى حيوي بحدّ ذاته، في موازاة أهمية المعركة نفسها، فكل ما يعزّز اقتناع الناس بمنطلق نهوض الدولة بوظائفها السيادية، وكل ما يخطو بإتجاه احتكار الدولة لمنظومة العنف الشرعي، ينبغي تثمينه والحرص عليه والدفع بإتجاهه، وكل ما يبعد الناس عن هذا الاقتناع، او يبدّده أو يحبطه، يجعلنا أسرى عشوائية الداخل والخارج أكثر فأكثر، وأسرى المشروع الفئوي انما المبني على التخطيط المنهجي والتعبئة المستدامة، مشروع «حزب الله». 

لا يعني هذا أنّ مسيرة استكمال تحقيق مفهوم الدولة الوطنية، وصولاً الى احتكارها منظومة العنف الشرعي، قد انطلقت. فهذه تتطلب إعادة إنتاج مشروع استقلالي، يتابع من النقطة التي وقف عندها المشروع الإستقلالي السابق قبل تصدّعه، لكنه يعي أكثر مما مضى الحاجة إلى ربط إستعادة الدولة لوظائفها السيادية باستصلاح العقد الاجتماعي بين اللبنانيين، وعدم التوهم أكثر من اللزوم بأنّ هذا العقد الاجتماعي موجود «صاغ سليم» وكل ما ينبغي هو الدفاع عنه والتوبة إليه. لا، العقد الإجتماعي يحتاج إلى استصلاح جدّي، ويواجه هذا بظروف غير مؤاتية، بدءاً من المشروع الهيمني الفئوي الذي يقوده «حزب الله»، وصولاً إلى مناخ الردّة الإقليمية عن الوعود بالحرية والديموقراطية لإنتفاضات 2011، ودفعاً لهذا المناخ، على لسان الطاغية البعثي نحو الهذيان المطلق، باعتباره تهجير نصف السوريين داخل بلادهم وخارجها نجاحاً في انتاج مجتمع متماسك صحي. ما يقوله هذا الطاغية أنّه نجح في إحلال عقد إجتماعي بترحيل نصف المجتمع وقمع إرادة التحول نحو الديموقراطية والنظام الدستوري. ومع ما في هذا الكلام من هذيان إلا أنّه يمثّل بالفعل الوجه الكابوسي لمجتمع يؤدي به التوازن الكارثي بين النظام الدموي وبين الخارجين عليه، ثم التدخل الأجنبي لدعم النظام، إلى تحطيم المجتمع نفسه، ثم رؤية هذا التحلل الإجتماعي على أنّه تماسك صحيّ. 

لا يمكن للوجود اللبناني أن يحافظ على نفسه في «عشوائية العالم» من دون إدراك أنّه وجود قائم بالضرورة على النقيض من هكذا هذيان، من هكذا طغيان. في سوريا كما في لبنان، وبشكلين مختلفين، كانت هناك مشكلة عقد اجتماعي مضمحل. ما حصل في سوريا أنّ المجتمع نفسه هو الذي نسفت عرى تواصله الأولى، بنتيجة التوازن الكارثي بين الأضداد ثم التدخل الأجنبي، في حين أّنّ المجتمع اللبناني رغم شدة الاختلاف السياسي بين مكوناته، ورغم انعدام التوازن بين الجماعة الحزبية المسلحة فيه وباقي القوى، الا أنّه ما زال مجتمعاً «يشتاق» إلى مفهوم الدولة، بطرائق شتى، ويدرك أنّ هذا المفهوم وقائي من «عشوائية العالم»، بدءاً من انعكاسات هذه العشوائية في الداخل اللبناني، التي يستفيد منها مشروع السلاح اللاشرعي. 

هذا في وقت تظهر فيه أكثر فأكثر أعطاب رمز «عشوائية العالم» في يومنا هذا، دونالد ترامب، سواء في الداخل الأميركي حيث يواجه أكثر فأكثر بحملة ضاغطة لم تعد تقبل به رئيساً بأي شكل، أو على الصعيد الخارجي، حيث لا يكاد يهتم بملف في السياسة الدولية حتى تجده قد انكبّ على ملف آخر. «التنطط» بين الملفات، واستدارة المجتمع الأرضي عند كل عتبة للتركيز على نقطة توتر ثم الإلتفات إلى نقطة أخرى، من دون أن يبدو هناك تحضير تصاعدي لحرب في أي نقطة، هو ما يطبع أداء الإدارة الحالية. 

في هذه العشوائية العالمية التي تطل بأشكال مختلفة من انعدام السوية، والتي تنعكس مزيداً من تعاظم انعدام التوازن في الداخل اللبناني، ومزيداً من الإضمحلال للعقد الإجتماعي القائم بين اللبنانيين، لا يترك العدد الأكبر من الناس لحظة يمكنهم فيها أن يعبّروا عن تشوقهم لإستعادة الدولة لوظائفها السيادية، بدءاً من تثبيت المكانة المركزية لسلاح الشرعية، إلا ويظهروا ذلك. وهذا معطى حيوي، غير مؤطر سياسياً، معاش، متجاوز لخارطة الإنقسام السياسي إلى حد معيّن، معطى يظهر في لحظات أكثر من لحظات، وينبغي التعامل معه بمراقبة حساسة ونقدية، لكنه من دون سلبية. في هذا المعطى بعض من «غريزة البقاء» لدى اللبنانيين، البقاء في الإقليم الأهوج من العالم الأهوج.