يوسف الديني 

أخطر ما في إرهاب اليوم هو سرعة استجابته لمتغيرات واقعه، وهو ما نراه خصوصاً في موجة الإرهاب الفوضوي الذي دشنه «داعش» بعد أنقاض خلافته المزعومة، وبدأنا نلمس استراتيجية جديدة لاستهداف أوروبا، عبر تجنيد العائدين من تنظيم داعش على أنقاض الخلافة التي حطمت أحلامهم باجتراح مجتمعات حالمة ومثالية لم تبلغها حتى أكثر الصور الذهنية للروايات التاريخية التمجيدية.

زوال الخلافة كان له أثر كبير جداً داخل منظومة الأنصار والمتعاطفين، وهي كتلة تتجاوز الكوادر التنظيمية والمقاتلين على الجبهات الذين قرروا الانضمام الفعلي، وهو قرار لاحق تسبقه مراحل تبدأ بالتعاطف وتنتهي بتحول حالة «الدعشنة» إلى فكرة مسيطرة تستغرق المخيلة للفرد، خصوصاً من الشباب، بسبب قدرة التنظيم عبر منتجاته الإعلامية والميديا المصاحبة على تحقيق العزلة الشعورية والانفصال عن الواقع الذي عادة ما يكون محبطاً للفرد، خصوصاً في الكونتونات الانعزالية التي تعيشها بعض الجاليات الإسلامية في أوروبا والغرب عموماً، أو الدول المتاخمة كدول المغرب العربي التي تتصدر المشهد الداعشي لأسباب تتصل بسهولة خلق هذه العزلة الشعورية، لا سيما بعد الفراغ الكبير الذي تم خلقه بعد الربيع الدولي على مستوى مفهوم الدولة ليس بمعناه المعياري دولة المؤسسات، وإنما الدولة - الأمة... الشعور الذي يخلق ويعزز الانتماء، وهو جزء من حزمة من الأسباب التي يجب أن يهتم بها الباحثون لمعرفة جغرافيا الإرهاب الفوضوي الجديدة، التي لا تعتمد على القناعات الدينية، وإنما على العكس استقطاب الأفراد الذين يعانون من قلق «الهويّة» داخل فضاء مجتمعات مغايرة كالمجتمعات الأوروبية، والتي لم تنجح في إدماج الأجيال الجديدة، لا سيما القابعين داخل السجون بسبب جنح جنائية، حيث يخرجون إلى المجتمع ويسهل اختطافهم من قبل الإرهاب أكثر من عودتهم إلى الجريمة مجدداً، حيث اللعب على خطاب الهوية وتحويل دوافع العنف والجريمة إلى دوافع «مقدسة» بلغة عصرية شبابية، ومنتجات بصرية تتضمن مقاطع الميديا والانفوغرافيك، وصولاً إلى ألعاب الفيديو للمراهقين.
بحسب مارتن تشولوفلاست في تحقيقه المثير «العائدون من (داعش)»، الذي كتبه تعليقاً على أحداث برشلونة، فإن هناك المئات من المقاتلين الفارين من جحيم خلافة «داعش» المزعومة انتقلوا إلى قارة أوروبا عبر مضيق جبل طارق، بينما يقبع أضعافهم في مناطق التوتر بليبيا التي ينطلقون منها إلى باقي دول المغرب العربي (بحسب إحصاءات تقارير غربية تحتل تونس أكبر معدل انضمام لتنظيم داعش، وهو ما يحيل إلى إشكالية قلق الهويّة أكثر من التجنيد على القناعات الدينية).
هناك المئات إن لم نقل الآلاف اليوم خسروا حلم الخلافة ولم يحتملوا البقاء على أنقاضها، فقرروا العودة محملين بهذه الفجيعة إلى بلدانهم الأصلية. وبحسب أحد كوادر «داعش» الفارين فإن من تبقى هم المؤمنون بآيديولوجية «داعش» العقائدية، أو بحسب تعبيره: «المتشددون قرروا البقاء».
في قراءة ظاهرة «داعش» الجديدة ما زلت أصر على ضرورة الاهتمام بالمكوّن الفكري بحذر، حيث كل جماعات العنف والإسلام السياسي والتمظهرات الجديدة للحالة الدينية تطور من خطابها باستمرار وبانتقائية شديدة بحسب الوضعية التي تكون عليها، وإن كانت الأصول العامة ثابتة لدى الجميع وإنما النزاع عادة في إسقاطها على الواقع «فقه النوازل»، وهنا تفتقر كل هذه الجماعات إلى رؤية شرعية متماسكة، فضلاً عن تصور وقراءة حقيقية للواقع بعيداً عن فسطاطي بن لادن الذي غاب فأصبح أيتامه يعيشون لعنة رحيل الرمز، وحلت أساطير الخلافة ونهاية العالم وفتح روما على خطابات «الجهاديين الجدد» الذين أيضاً جاءوا من جغرافيا مغايرة حيث بات القادمون من بلدان الهوية القلقة وتحديداً أوروبا.
البقاء على إعادة إنتاج القراءة في نصوص «داعش» التقليدية، وهي نصوص غير أصلية ولا تخرج عن تراث العنف المسلح منذ بداياته، لكن تعاملها مع الواقع مختلف تماماً، حيث أضافت لها ثقافة جديدة ومنتجات عصرية مقطوعة الصلة بذلك الإرث المعقد في الفهم لدى المسلم الأوروبي غير المتعمق، فتم إنتاج خطاب عصري قادر على إقناعه بلغته.
في قصة مثيرة يرويها داعشي من مصر على مواقع التواصل الاجتماعي عن انتقاله من مصر إلى تركيا للالتحاق بالتنظيم وانضمامه إلى جبهة النصرة في بداية رحلته القتالية، ثم التحاقه بـ«داعش» بعد صعوده، وبعد أن تدرب في ورشة لتصنيع العبوات الناسفة، إلا أن سبب انتقاله إلى «داعش» جاء بسبب خطابه المتضمن الإيغال في العنف، وإرضاء الهوس المرضي بالقتال أكثر من حرصه على البحث عن الشرعية، وكان إعلان فكرة الخلافة، بحسب وصفه، الدافع الأكبر للانتقال، حيث انبهر بالمكون الاجتماعي والألقاب في خلافة «داعش» المزعومة وطرائق أمراء الأقاليم على توزيع الغنائم، وتحدث عن قصة زواجه من الفتاة التي أشرفت على علاجه بعد أن أصيب في إحدى المعارك، يقضي يومه في الكتيبة ويعود إلى منزله في حال عدم اندلاع معركة أو فتح جبهة جديدة. يتواصل مع أهله في مصر عبر «فيسبوك» من أرض الخلافة أو يعلق على الحسابات المعادية لـ«أمير المؤمنين» عبر منصات «تويتر»!
هذا المثال كان يمكن أن ينجح في سيناريو فيلم تاريخي متخيل لولا أن تنظيم داعش حاول تكريسه كواقع معيش لبعض الوقت، بسبب فشل المجتمع الدولي في قراءة الحالة الجديدة لفوضى الإرهاب، ووجود دول انتفعت من بقاء فوضاه، ورغم أن أنقاض الخلافة اليوم ستخلق واقعاً جديداً على مستوى تراجع جاذبية الفكرة الداعشية فإنها ستبقى إلى أجل غير مسمى، مهدداً لحالة السلم في المجتمعات المعاصرة بسبب رضات المأزومين العائدين من «داعش» والذين من سيكون من الصعب جداً إدماجهم مجدداً في مجتمعاتهم الأصلية، في ظل بقاء التعامل الأمني على أهميته، ودون أخذ خطاب الإرهاب ومنتجاته على محمل الجد بقراءات تتجاوز الكليشيهات التقليدية والتي تحاول النفاذ إلى عموميات الخطاب دون قراءة معمقة للظاهرة في جوانبها الاجتماعية ودوافعها النفسية... طلقات الرصاص يمكن أن تقتل متطرفين وإرهابيين لكنها لا تصيب الأفكار ذاتها.