وسام سعادة

ليس تفصيلاً أن تكون مقولة «جيش وشعب ومقاومة» التي فرضت سطوتها الإعلاميّة إبان عملية «حزب الله» في جرود عرسال، وبلغت ذروتها ليلة استقبال أسرى الحزب لدى «جبهة النصرة» في بلدة القاع، عادت وانحسرت موجتها ابان عملية «فجر الجرود» التي يشنها سلاح الشرعية اللبنانية على مسلّحي «داعش» في جرود رأس بعلبك وجرود القاع. وليست نافلة أبداً المقارنة بين الطابع الدعائي المحض لـ «الإعلام الحربيّ» لدى «حزب الله»، والإيجاز اليوميّ الموضوعيّ والشارح للتقدّم الميداني يوماً بيوم، الذي تقدّمه مديرية التوجيه في الجيش اللبناني كلّ مساء. المسألة لا تختزل في أحجية «تنسيق أو لا تنسيق». 

المسألة هي التذكير قبل كل شيء بأنّ ثنائية السلاحين، الشرعي والحزبي، على الأرض اللبنانية لا يمكن إلغاؤها لا من قبل السلاح الحزبي، ولا من قبل الذين يدفعهم التشاؤم، المحق، إلى خلاصة، غير محقّة، بأنّ هذا السلاح بات يسيّر كلّ شيء. هذه الثنائية بين سلاحين، شرعيّ وحزبيّ، ليست سهلة الإستيعاب والإحاطة، ولها لحظة مختلفة عند كل منعطف، لكنها ثنائية لا يمكن اختزالها في السلاح الحزبي وحده، إلا من قبل المكتفين برصد العصبيات، وأيّ عصبيات لها الصدارة، أو «الزمن»، عند كل عتبة، والتقليل من الطابع المركّب لإشتغال المؤسسات، وبخاصة المؤسسات الهرمية المركزية، المستندة إلى سلك يشمل عشرات الآلاف من المنضوين فيه، كسلك الجندية.

التوازن معدوم بين الجماعات اللبنانية المختلفة، ولصالح المشروع الهيمني الفئوي الذي يقوده «حزب الله»، نعم. لكن المشروع الهيمني لا يعني أنّه حقق مراده وبسط نموذجه القيادي في المجتمع والدولة. هو مشروع يفرض سيطرته المباشرة، كما لو كان دولة ضمن دولة، في المناطق التي «يطابق» نسيجها «تأطيراً» لهذا النسيج. ومشروع يتحكّم بلعبة المؤسسات الدستورية وتعطيلها أو رفع تعطيلها، لكن «تحكميته» هذه مبنية على استخدامه المفرط لـ «حق النقض» في التركيبة القائمة، وهو «حق نقض» معطى بالمناسبة بدرجات متفاوتة لأكبر وأصغر فاعل في هذه التركيبة. 

ليس تقليدياً أبداً بالنسبة إلى تاريخ النزاعات اللبنانية، ارتباط هذا المشروع العضوي بـ «الحرس الثوريّ الإيراني»، وعدم مغادرته الجدّية لـ «بداياته الثورية»، يوم كان يمنّي النفس بـ «الثورة الإسلامية» و«الجمهورية الإسلامية» في لبنان، وانعدام السبيل ضمنه لأي مراجعة جدّية لأشكال استخدام العنف المختلفة في الداخل، وأشكال التدخّل في شؤون البلدان الأخرى، من اليمن حتى الأرجنتين. في نفس الوقت، كل هذا يعوق تمكّن هذا المشروع من تحويل تفوّقه السلاحيّ والتعبويّ، إلى رصيد تعديليّ للصيغة اللبنانية لصالحه، حتى الآن، وما بدا أنّ الطريق شرّعت إليه بعد «جرود عرسال»، لا تزال تعترضه عراقيل موضوعية، أهمّها أنّ هناك بالفعل دولة في لبنان، لها مؤسساتها وأجهزتها، غير المناهضة بشكل عام لـ «سلاح الحزب»، بل المتفهمة بشكل أو بآخر لواقع «انعدام التوازن» في الداخل لصالحه، ولكنها مؤسسات لا يمكن أن تلغي نفسها، ولا بدّ لها كي لا تلغي نفسها أن تعمل، وتنهض بوظائفها، بما تيسّر، فتجد حاجة عندما تقوم بذلك إلى أن تخفف من «الوصاية» التي يحاول الطرف «الساهر على الآخرين» أن يغمرها بها. 

في مكان ما، من الواقع اللبناني، الكلّ يخضع بأشكال مختلفة لتداعيات «انعدام التوازن» الذي يوجده تعاظم ظاهرة «حزب الله». لكن في مكان غير بعيد من نفس الواقع، هناك تناقض حقيقي، بين هذا الحزب وبين كل من ليس «حزب الله»، تناقض لا يمكن التعويل على «تسييسه» لكنه تناقض موجود في المعاش اليومي، في الحسابات المختلفة التي يجريها عموم الناس، وما هو قائم بين الناس قائم كذلك الأمر بين نموذج السيطرة الذي يجسّده الحزب وبين مؤسسات الدولة، حتى ولو أرادت بحق، أن تكون صديقة لهذا الحزب، وتحاول المستحيل للوصول إلى تعايش مستقر بين الحزب اللبناني الأكبر، التحكّمي لا الحاكم، وبين الدولة الوطنية المستندة الى نظام دستوري تعددي.

طبعاً، هناك من يعتبر أنّ هذا التمييز بين المستويات تعقيد غير ضروري للمسائل، وله طابع تبريري للأمر الواقع، أو مكابر على أنه قضي الأمر، لصالح المشروع الخميني في لبنان. حق المرء أن يفكّر هكذا طالما هو يعتبر أنّ مؤسسات الدولة مجرّد «بنية فوقية» يلتهمها الحزب بمجرّد أن يسيطر على «البنية التحتية»، لكنه موقع عدميّ: فلا «البنية التحتية»، الإقتصاد اللبناني قبل كل شيء، «لقمة في الفم» بالنسبة للحزب، ولا مؤسسات الدولة، وخصوصاً القضاء والجيش، يمكن مقاربتها كما لو أنّها قد تكيّفت مع «وصاية» الحزب وقضي الأمر. صحيح أن البلد لا يشهد «مقاومة اقتصادية - ثقافية - دولتية» لمشروع الوصاية في الوقت الحالي، لكن كل مؤسسة ستفرز بالضرورة مضادات حيوية تعوق استتباب وصاية الحزب بمجرّد أن تبقى موجودة كمؤسسة، وبمجرّد أن تزاول وظائفها. عندما ينهض سلاح الشرعية بوظائفه السيادية متمتعا بالتفاف شعبي حوله فهذا بحدّ ذاته معطى وطني ايجابي أساسي، قد يقلل من اهميته من يعتقد انه لا امكانية قط للتعايش مع «حزب الله»، أو من يعتقد بأنّه لا مجال الا للإقرار بهيمنة هذا الحزب.

وعلى الهامش، هناك لغط كثير حول موضوعة «التنسيق». في الحروب، وفي الحروب الحديثة بخاصة، قنوات التواصل لا بد منها بين الجيوش المتحاربة، بما في ذلك قنوات التواصل المباشرة. هذا التواصل يزيد بطبيعة الحال اذا كانت العمليات الحربية لاطراف مختلفة تجري في مساحة جغرافية صغيرة. التواصل اذاً كلمة فضفاضة لكنها تشمل كل الوان الطيف هنا. اما التنسيق فهو مزاوجة عمليات حربية مختلفة لتكون اجزاء من عملية حربية مشتركة. عندما يقول الجيش ان هذا ليس بحاصل في الجرود فليس هناك من سبب وجيه بشكل مسبق للتشكيك بالامر. لا يعني هذا ان نمط التواصل بين الجيش اللبناني وكل من «حزب الله» والجيش السوري يمكن الآن تحديده بدقة، لكنه موجود طبعاً، وموجود بالشكل الذي يجعل طرفاً يخبر عنه، وآخر يتحاشى سيرته. بقي ان التواصل، لكي يكون تنسيقاً، ينبغي ان يبنى على ذلك تحولها الى عملية واحدة مشتركة. مثل هذا غير موجود. ليس فقط لضغوط اميركية. لكن لان اي تنسيق بين سلاحين في وحدة العملية المركبة المشتركة يشترط غرفة ادارة مشتركة لهذه العملية، و«حزب الله» لم يصل بعد الى هذه الدرجة من تعاظم قوته في التركيبة اللبنانية، رغم كل ما استجمعه فيها من مقومات السيطرة والغلبة والتبغدد واستتباع الآخرين، حلفاء واخصاماً. بالمناسبة، حتى الجيش الايراني ما زال يمانع تحكم الحرس الثوري الايراني به، والجيش الالماني في اعوام الحرب العالمية الثانية كذلك، لم تفتر فيه ارادة التحلل من سيطرة قوات «الإس.إس» الى نهاية الحرب، ورغم كل ادانة الالمان اليوم لهتلر والنازية لا يزال الى اليوم الموقف من الجيش الالماني نفسه في اعوام الحرب اصعب في المانيا. «حزب الله» ليس «الإس.إس»، وهو أقرب ما يكون لفرع لبناني لحرس ثوري ايراني أممي. لكن لبنان ليس ايران أيضاً. لم تقم فيه «الثورة الإسلامية» بعد، ولا يمكن أن تقوم فقط بانتصارات في «حروب مواقع» يقتنصها الحزب بنجاح وذكاء.