وائل مرزا

على رغم المحاولات عربياً على مدى سنوات، يبدو تطبيع العلاقات مع إيران وضعاً أقربَ إلى المستحيل.

بعيداً من الاعتبارات المذهبية البحتة، تبقى إيران، برؤيتها السياسية والأيديولوجية، وهوس السيطرة الإمبراطورية المتحكم بقادتها، وممارساتها التوسعية، مصدر خطر مستمر، ليس فقط على الحكومات والدول، وإنما على كل استقرارٍ ممكنٍ للمجتمعات العربية.
تمثلت الخطوة الأولى على طريق التوسع في السيطرة على العراق. وجاءت فرصتها الذهبية بعد سقوطه في أحضانها نتيجة السياسات الأميركية.

لهذا، وعلى مدى أعوام، رفض العرب تدخل إيران في شؤون العراق، إن لجهة محاولتها السيطرة سياسياً فيه، أو على صعيد الوجود العسكري/ الميليشياوي.

كانت السعودية في مقدم ذلك الرفض المتكرر. فقد صرح عادل الجبير، وزير الخارجية السعودي، في مقابلة مع قناة RT الروسية يوم 20 أيار (مايو) بأن «الرياض تنظر لوجود قاسم سليماني في بغداد بأنه سلبي جداً»، مؤكداً أن «الحرس الثوري يحارب الشعب السوري، يحارب في العراق، ويقوم بأعمال تخريبية في أنحاء أخرى من العالم».

المفارقة هنا أن وزير الخارجية العراقي صرح، في عمّان بتاريخ 7 حزيران (يونيو) من العام الفائت، بأن سليماني «يعمل في الأراضي العراقية بوظيفة مستشار عسكري بعلم الحكومة العراقية ودرايتها التامة».

لكن التدخل الإيراني المذكور تصاعد، وفي كثيرٍ من الأحيان، بالتنسيق على أعلى المستويات، مع مسؤولين عراقيين وموافقتهم.

على رغم هذا، بقيت السعودية حريصةً تعمل على تجنيب العراق السقوط في مأزق التبعية الكاملة لإيران. وجليٌ أن كل السياسات والممارسات التي تندرج في هذه الخانة تشكل اختراقاً مهماً يُوظف في عملية التخطيط السياسي. هكذا، تعددت المحاولات والمبادرات السعودية، تحديداً، في هذا السياق. بل إنها تصاعدت أخيراً إلى خطوات متقدمة تتمثل في ما حصل خلال الأسابيع الأخيرة من دعوات وزيارات ولقاءات ونشاطات متنوعة، بدأت مع زيارة رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، برفقة وفدٍ مهم يتضمن وزير الخارجية إبراهيم الجعفري والداخلية قاسم الأعرجي وغيرهما.

تلت ذلك زيارةُ مقتدى الصدر، فضلاً عن الحديث عن إمكان زيارة عمار الحكيم، وإمكان افتتاح قنصلية عامة سعودية في النجف قريباً، كما صرح عبدالعزيز الشمري، القائم بأعمال السفارة السعودية في بغداد، للزميلة «الشرق الأوسط».

يمثل هذا الحراك السياسي والديبلوماسي والاقتصادي نقلةً نوعية، على طريق تحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل في تقليص نفوذ إيران في العراق.

على رغم ذلك، ثمة تاريخٌ معروف عن استراتيجية إيران في مثل هذه القضايا، وقدرتها الكبيرة على التخطيط طويل المدى، وتوزيع الأدوار، وخلط الأوراق، وممارسة التقية السياسية قبل الدينية. وقبل هذا وبعده، هناك عُمق اختراقها العراق على مدى خمسة عشر عاماً على الأقل. وهو عمقٌ عمِلت إيران، ولا تزال، على ترسيخه بحِرَفيةٍ ومهارة، على مستوى الرموز والأفكار والسياسات والمؤسسات.

من هنا، تأتي أهمية الرصد المستمر والمتابعة الحثيثة في كل حسابات عملية «استعادة» العراق ومحاولة تقليص نفوذ إيران فيه، باعتبار صعوبة الحديث عن إلغاء ذلك النفوذ نهائياً، لاعتبارات جيواستراتيجية لا تخفى على المحللين.

في هذا الإطار، يجدر الانتباه إلى إشارات ظهرت، قَبل الجهود السعودية الأخيرة وبعدها، تُوثّق مفاصل النفوذ الإيراني.

لا يمكن، مثلاً، الغفلة عن طبيعة «الحشد الشعبي» وعقيدته وقياداته ودوره الراهن والمستقبلي، وفق أدبياته المكتوبة والمسموعة والمرئية. فمنذ أربعة شهور فقط، في نيسان (أبريل)، نشر موقع «العربية» تقريراً تفصيلياً عن أبو مهدي المهندس، نائب قائد ميليشيات الحشد، بدأته بتصريح قال فيه: «أفخر بكوني جندياً لدى سليماني»، وذلك «بلغةٍ فارسيةٍ بليغة»، كما أكدَ الموقع. مع توثيق تصريحاته القاطعة بخصوص ولائه لمبدأ ولاية الفقيه، وتبعيته للمرشد الإيراني علي خامنئي، وإخلاصه لتحقيق أهداف الثورة الخمينية.

لا مفر من التساؤل هنا، عن عدم صدور أي موقف رسمي حكومي عراقي معارض لتصريحات ترضى بكون قيادات الحشد الشعبي جنوداً لمرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية!

ثمة إشارات أخرى ذات دلالة لم تلقَ رواجاً في وسائل الإعلام في ما يتعلق بالحشد ودوره، المستقبلي تحديداً، على رغم رؤية السعودية التي عبّر عنها، أيضاً، وزير خارجيتها عادل الجبير، منذ عام، بضرورة تفكيك ميليشيات الحشد، متهماً إياها بتأجيج «التوتر الطائفي»، مؤكداً خلال لقائه مع صحافيين في باريس أن «الحشد الشعبي طائفي وتقوده إيران».

فمنذ شهرين، وبتاريخ 21 حزيران الفائت، قال رئيس الحشد، فالح الفياض، في كلمة لمناسبة الذكرى الثالثة لتأسيس الحشد، إن «كل من يعتقد أن الحشد مُستلزمٌ لمرحلة إنما هو يعيش الوهم».

وهي المناسبة ذاتها التي ألقى فيها الأمين العام لحركة «عصائب أهل الحق»، قيس الخزعلي، كلمةً قال فيها إن جميع محاولات حل الحشد ستفشل. علماً أن حركته أصدرت بياناً بتاريخ 23 أيار الماضي تُهاجم فيه بقوة كلاً من البحرين والسعودية، وبأقذع الألفاظ.
الجدير بالذكر أن العصائب مُكونٌ رئيس من مكونات الحشد. وما يلفت النظر أن المناسبة تمت برعاية رئيس الوزراء العراقي، الذي ألقى رئيس الحشد الكلمة نيابةً عنه، وجاء فيها اعتبارُ العبادي ذكرى تأسيس الحشد «عيداً وطنياً».

واستمراراً للحفاظ على نفوذها وتأثيرها في العراق، تحرصُ القيادات الإيرانية على التذكير بطبيعة العلاقة الاستراتيجية بين البلدين من خلال التصريحات، والحرص على إجراء اللقاءات والاتفاقيات. مع تكثيفٍ مُعبِّر لهذه السياسة خلال الأسابيع الماضية تحديداً.
فقبل قرابة شهرين، أكد الرئيس الإيراني حسن روحاني في كلمة له في مهرجان «الصحة والسلامة» بقاعة المؤتمرات بطهران، بتاريخ 11 حزيران: «عندما نتحدث عن تقديم الدعم للشعب العراقي، يتصور البعض أن دعمنا ينحصر في التضحية الجسدية»، مؤكداً أن الجمهورية الإسلامية «قدمت فضلاً عن الشهداء، المال والسلاح».

بعدَها، وقَّعَ وزير الدفاع العراقي عرفان الحيالي ونظيره الإيراني حسين دهقان، في طهران بتاريخ 23 حزيران، مذكرة تفاهم للتعاون في المجال الدفاعي العسكري.

وأخيراً، دعت طهران وزير الداخلية العراقي، قاسم الأعرجي، إلى طهران بتاريخ 14 آب (أغسطس) الحالي، قابل فيها وزير الداخلية الإيراني، العميد حسن أشتري، الذي وعد بتسخير كافة الإمكانات للحكومة العراقية. بالمقابل، أشاد الوزير العراقي بدور الجمهورية الإسلامية المؤثر ومساهمتها الكبيرة، ووجَّهَ الشكر والتقدير للحكومة الإيرانية، مؤكداً على المزيد من تعزيز العلاقات معها، وعلى استعداد الحكومة العراقية للاستفادة من جميع خبرات الجمهورية الإسلامية الإيرانية في مختلف المجالات.

ثمة الكثير مما يندرج في عملية «وصل النقـاط»، أو connecting the dots كما يُقال في المثل الإنـكليزي، لتفكيك وفهم الصورة المعقدة التي نُلمحُ إليها. تلك مهمة أصحاب الشأن، وحسبُنا هنا، أخيراً، الإشارة الى معلومتين.

فمنذ أسبوعين، صوت 240 نائباً من أصل 244 في مجلس الشورى (البرلمان) الإيراني على مشروع قانون لزيادة المخصصات المالية للبرنامج والعمليات الخارجية (الإقليمية) لـ «الحرس الثوري» بمبلغ 520 مليون دولار.

وفي تموز (يوليو) من العام الماضي، حضر الأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات السعودية السابق، مؤتمر المعارضة الإيرانية في باريس دعماً لجهودها في إنهاء الدور الإيراني السلبي في المنطقة والعالم. رحّبت، مريم رجوي، زعيمة المعارضة الإيرانية، المحترمة عالمياً، بحضور الأمير وكلمته. وهي ذاتُها التي صرَّحت قبل ذلك عن الخطورة الاستراتيجية لنفوذ إيران في العراق قائلةً: «إن نفوذ النظام الإيراني في العراق أکثر خطورة من القنبلة النووية بـ100 مرة». تَعلمُ رجوي الكثير عما تقوله، والأرجح أن مقولتها يجب أن تكون قاعدةً أساسية في حسابات استعادة العراق عربياً من إيران.


* كاتب سوري