سمير عطا الله

في مرور مائة عام على قيام الثورة البلشفية في روسيا القيصرية، يتعرف العالم أكثر فأكثر على بلد هائل الحجم، كان مجهولاً لدى معظم البشر. كُتب كثيرة تصدر، ووثائق كثيرة تُكشف، وللمرة الأولى في الذاكرة الإنسانية من دون رقابة، عن حقائق الأحداث ووقائع الحياة. ليس من خلال السرد الروائي، الذي تجلّى فيه الروس أكثر من سواهم، بل من خلال الكتابات العادية التي لم تكن تصل إلى الناس، في الداخل أو الخارج، إلا «مجمدة» لا تنال من معنويات الحزب والرفاق.

لا شك أن الثورة البلشفية كانت أهم تحولات القرن الماضي. فقد تبدلت روسيا الكبرى إلى اتحاد سوفياتي أكبر وأقوى. وبعدما كانت الإمبراطورية البريطانية تغطي نصف الكرة، أصبحت أنظمة شيوعية في ثلث العالم. وهذا الثلث دخل في مواجهة حادة مع العصر الإمبراطوري الغربي الذي كان يحكم العالم منذ أيام روما. 

فالإمبراطورية لم تكن وحدها سائدة في الأرض، بل كانت الفرنسية تليها حجماً. وقبل السوفيات، كان الغربيون يتصارعون فيما بينهم على تقاسم العالم، خصوصاً الفرنسيين والبريطانيين، لكن بعد الحرب العالمية الثانية، تمدد الاتحاد السوفياتي من جمهورياته إلى أوروبا الشرقية، وتمدد نفوذه السياسي والآيديولوجي إلى الهند وأميركا الجنوبية وأفريقيا وآسيا. وفي مرحلة ما، كادت إسبانيا الفرانكوية، وبرتغال سالازار، تصبحان كوبا أخرى في غرب أوروبا.

لكن خلل النظام الشيوعي كان في صلبه، وليس في الخارج، كما تكهن كثيرون، بينهم الفرنسي إيمانويل تود العام 1976 في كتابه «السقوط النهائي». غير أن الوطن الذي تحدث عنه تود لم يعد وقفاً على الأنظمة الشيوعية آنذاك. ها هي مارين لوبان كادت تتقدم السباق الرئاسي في فرنسا، التي يفترض أنها أم الليبراليات المضادة للعنصرية. والثورة البلشفية لم تكن سوى نتاج الثورة الفرنسية، ولكن بموجبه نص مكتوب، وليس خطابياً فقط.

تُطلعنا الكتب المحتفلة بمئوية «ثورة أكتوبر (تشرين الأول)» على الصراعات الروحية والسياسية التي عاشها الروس. والأرجح أنهم لا يزالون. وميخائيل غورباتشوف يكرر أن هدفه من الإصلاح لم يكن إنهاء الاتحاد السوفياتي، ولا أن يدخل التاريخ كآخر رئيس لذلك الاتحاد. لكن الهشاشة لم تتحمل مسار التغيير البطيء. فقد سارع عتاة الشيوعية إلى نكران لينين. ولم يتركوا له في العقل الروسي الحاكم، سوى مزار سياحي صامت، فيما انطلق «الروس الجدد» يتكلمون دون انقطاع. حقاً الصورة مختلفة.