نديم قطيش

يحق لـ«حزب الله» أن يقلق من نتائج معركة جرود بعلبك والقاع، شرق لبنان، التي يخوضها الجيش في مواجهة جيوب «داعش». 

فمنذ اتفاق الطائف وانتهاء الحروب الأهلية اللبنانية وحروب الآخرين على أرض لبنان، هذه أول معركة يخوضها الجيش اللبناني بمثل هذا النجاح والأداء الميداني الباهر. أحسبها المرة الأولى؛ لأن معركة نهر البارد كانت معركة مفاجئة فُرضت على الجيش في توقيت لم يختره، ورغم نجاحها في المحصلة العامة فإن كلفاتها كانت كبيرة على المؤسسة العسكرية، كما أنها تختلف في طبيعتها الميدانية، إذ كان مسرحها مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين شمال لبنان، وليس جروداً في أطراف الوطن.

للمرة الأولى يرى اللبنانيون جيشهم في مثل هذه المعركة. معركة نجحت في تعديل المزاج الوطني العام بعد معركة «حزب الله» في جرود عرسال التي سبقتها بأيام.

بالمقارنة مع «حزب الله»، الذي تكبد ما يقرب من ثلاثين قتيلاً وثلاثة أسرى، خلال 48 ساعة من القتال، وأنهى المعركة بتفاوض مهين مع «جبهة النصرة»، استشهد للجيش اللبناني خمسة عسكريين، قضى أربعة منهم بلغم أرضي. ثم إن المساحة التي حررها الجيش اللبناني، أو قاتل فيها «داعش» تتجاوز بخمس مرات تلك التي خاض فيها «حزب الله» معاركه ضد «النصرة».

الأهم بالنسبة لـ«حزب الله»، أن معركة الجيش الأخيرة أضعفت سردية «حزب الله» عن الدولة الضعيفة والجيش الضعيف، الذي شبهه ذات مرة أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله، بقوى الأمن الداخلي أو الشرطة. 

ذروة هذه السردية التي لطالما تغذت من تصريحات لمسؤولين لبنانيين، عن ضعف المؤسسة العسكرية، آخرها كلام لرئيس الجمهورية ميشال عون من القاهرة قبل أشهر، كانت معادلة «الجيش والشعب والمقاومة»! فهذه المعادلة التي نحتها خطاب «حزب الله» وحاول فرضها سياسياً لفترة طويلة، باعتبارها الإطار الذي يحكم العلاقة بين شرعية الدولة اللبنانية والسلاح غير الشرعي لميليشيا «حزب الله»، فقدت بعد معركة الجيش كثيراً من مسوغاتها. فالجيش قاتل وحيداً، مدعوماً من حلفاء الدولة اللبنانية، وتحديداً الولايات المتحدة وبريطانيا، ومن دون حاجته لسلاح رديف أو تشكيلات موازية له. وفي مقابل سردية «حزب الله» نهضت سردية أخرى في أوساط خصومه، تقوم على ثلاثية أخرى هي «الجيش والشعب والدولة».

أعترف أنني شخصياً صاحب حساسية عالية على كل هذه المعادلات التي تضع إلى جانب الدولة وبموازاتها بعضاً من أجزائها، أي تساوي بين الجزء الذي هو الشعب أو الجيش، وبين الدولة التي هي الكل، والكيان الذي ينبغي أن تنضوي تحته الأجزاء. 

فالجيش ليس كياناً مستقلاً عن الدولة، بل هو بعضها، ويستمد شرعيته من شرعيتها ووجوده من وجودها؛ بل هي شرطه وليس هو شرطها، إذ يمكن لدولة أن تقوم بلا جيش، في حين أن العكس ليس صحيحاً. إنما خارج هذا الاستطراد، تكتسب معادلة «جيش وشعب ودولة» قيمة سجالية مهمة في مواجهة ميليشيا «حزب الله» وسرديتها عن الحاجة الأبدية للسلاح غير الشرعي، بداعي ضعف الدولة وجيشها.

لـ«حزب الله» أن يقلق وأن يستفز أيضاً من النبرة الاستقلالية التي عبر عنها الجيش علناً؛ نافياً التنسيق مع «حزب الله»، وهو ما يضع حداً لمعادلة الشراكة بين السلاحين الشرعي وغير الشرعي. فإن كانت ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة» مصدر إحراج للجيش أو خجل لقيادته، بحيث تأنف من الاعتراف العلني بها، على افتراض أن ثمة تنسيقاً سرياً وغير معلن، فهذا مصداق على خلل فيها، وفي شرعيتها. 

فكيف إذا كانت نبرة الجيش الاستقلالية هي تعبير عن واقع ميداني حقيقي لم يحصل فيه أي تنسيق بين السلاحين؟ إذ ذاك، «حزب الله» محق، أن أسئلة سياسية كبيرة ستطرح في لبنان عن جدوى سلاح «حزب الله» ودوره ومشروعه.

يعرف الحزب، أن تاريخ السلاح الميليشياوي في لبنان اقترن دوماً بضعف الدولة، وتغذى من هذا الضعف. الحكاية واحدة، منذ سلاح الميليشيات الفلسطينية وتوقيع اتفاق القاهرة عام 1969، ومنح الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات حقوقاً عسكرية سيادية على الأرض اللبنانية، مروراً بانتفاضات سلاح ميليشيات حركة «أمل»، والحزب التقدمي الاشتراكي في بيروت عام 1984، وصولاً إلى استقواء سلاح «حزب الله» على الدولة اللبنانية.

في التاريخ الأبعد، قبل اتفاق الطائف، كان استهداف الجيش مباشرة هو أداة الميليشيات، لإضعاف المؤسسة العسكرية الرسمية، وإضعاف شرعيتها، وشرعية القرار السياسي الذي يقف خلفها ويحميها. وفي التاريخ الأحدث صار اختراق الجيش من جهة ومحاصرته بألاعيب الانقسام السياسي من جهة ثانية، أداة مثلى لتحييده وإضعاف دوره. كل هذا ما زال قائماً بشكل أو بآخر اليوم. 
المتغير هو توفر قرار سياسي على مستوى الحكومة ورئاسة الجمهورية، ورؤية عسكرية على مستوى القيادة الجديدة للجيش، ورعاية مباشرة من المجتمع الدولي، تسليحاً وتدريباً ودعماً لوجستياً؛ كلها عناصر لا بد أن تصب في مصلحة تقوية الجيش وشد عزيمته، باتجاه ينفي المبررات التي تقوم عليها سردية السلاح غير الشرعي.

معركة جرود بعلبك، من هذا المنظار، معركة مفصلية حول مستقبل الدولة في لبنان… ليس أقل.