أحمد التيهاني

سيرة خالد الفيصل حق عام، مثلما أن الأمير شخصية عامة، وللأجيال الحق في قراءة سير رموزها، وحيوات أصحاب الأثر في مآلها

مثلما تواجه الباحثَ في فن السيرة الذاتية مشكلةُ تجنيس بعض الأعمال، لعدّها في هذا الفن، أو إخراجها منه، أو عدّها من فروعه، كالمذكرات، واليوميات، والاعترافات، تواجه المشكلةُ نفسُها قاصدَ الكتابة عن الإصدار الأخير للأمير خالد الفيصل: «إن لم... فمن..!؟»، مما يجعل أيّ قراءة في هذا الكتاب تابعة وتالية لحسم الجنس الأدبي الذي يُنمى إليه، فضلا عن أن تجنيس هذا العمل يمنحنا الحق في مطالبة خالد الفيصل بكتابة سيرته الذاتية كاملة، في حال ترجيح أن هذا الكتاب ليس سيرة ذاتية تامة وشاملة، وهو ما أعترف بميلي إليه ليقيني بأن فيما لم يحوه الكتاب، أحداثاً تفوق في أهميتها بعض ما جاء فيه. منذ التصفح الأول، يدرك القارئ أن حدس الأمير الاستشرافي قد دعاه إلى توقع أن يتساءل القارئون عن الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه كتابه؛ ولذا أجاب عن السؤال قبل البدء في السرد، لكن الإجابة أتت بعباراتٍ تزيد الأسئلةَ أسئلةً، وكأنّه أراد مضاعفة الاستفهامات، ببناء أسئلة فوق الأسئلة؛ لتؤازر الاستفهام الكبير الذي تضمنه عنوان الكتاب، وكان – بتشكيله البصري، وتكرار علامات الترقيم – سؤالاً لغويا مركزيا يقدح أسئلة إيحائية هامشية كثيرة، ولا يمكن أن تكون إجاباتها يقينية جازمة، وإنما ظنية احتمالية، مما يجعله عنوانا ذا احتمالات مقصودة، تحيل إلى أن عدم وضوح انتماء الكتاب كله إلى جنسٍ أدبي معلوم، مقصود أيضا.
يقرر خالد الفيصل بأن كتابه ليس سيرة، ولا مذكرات، ولا تقارير، حين يقول تحت عنوان: «لماذا؟»: «ولكنها ليست مذكرات شخصية، ولم أقصد بها سيرة ذاتية، ولم أكتبها تقارير رسميّة، فما هي إلا تجربة إنسانية»، ويعترف بأنه لم يعد إلى مراجع سوى ذاكرته، فيقول: «لستُ كاتباً ولا مؤرخا ولا منظرا، فما أكتبه لا يعدو كونه تأملات مواطن، ليس لها مراجع إلا ذاكرة مُسن»، وكان يمكن الاكتفاء بهذين الاقتباسين لإخراج الكتاب من فن السيرة الذاتية، غير أن القارئ في الصفحات التالية يجد سرداً سيريا فنيا يصور ولادة الأمير في مكة المكرمة، وسنوات غربته الأولى في الأحساء، ولقاءه الأول بالملكين: عبدالعزيز، وفيصل – رحمهما الله – ويتواصل السرد في غربة ثانية في الطائف، وثالثة في لندن، ليعود إلى «رعاية الشباب»، ثم يصعد إلى «شواهق عسير»، ليتجه – بعد عقود أربعة - إلى «ظلال الكعبة»، ومنها إلى الوزارة، قافلاً إلى الإمارة مرة أخرى.
وهكذا يجد القارئ نفسه أمام سيرة ذاتية شفافة وممتعة، حتى يتداخل العقل الإنساني مع عقل المسؤول، فيذهب الكتاب – فجأة – نحو التقارير الرسمية، ثم يتجه إلى توثيق الكلمات الملقاة في مناسباتٍ مختلفة، مما أحدث انقطاعاً سردياً كنت - في داخلي - أتمناه لأطالب المؤلف بسيرة ذاتية فنية كاملة غير منقوصة، وغير مقرونة بالأرقام وتقارير المشروعات.
قد يقول قائل: وما الفائدة من تجنيس هذا الكتاب؟ فأقول: تأتي أهمية مقاربة الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه كتاب: «إن لم... فمن..!؟»، عند الربط بين: المُنتَج (الكتاب)، وشخصية مُنتِجه (خالد الفيصل)؛ أي عند معرفة أن مؤلفه واحد من أهم صانعي التاريخ التنموي السعودي، وأن سيرته الذاتية حقٌّ عام، لأنها سيرة شخصية عامة، لها بصماتها وأثرها واستشرافاتها ومواقفها ومنجزاتها، فضلا عن أنها شخصية جدلية، وذلك بدهي عند النظر إلى أننا لسنا أمام رجل دولة لا غير، ولسنا أمام إداري فقط، ولا أمام حاكم وحسب، وإنما نحن أمام شخصية لها آراؤها المستقلة في الفكر والسياسة والفن، وهي آراء يختلف معها المتلقون المستقلون أو يتفقون بحسب توجهاتهم وثقافاتهم، أو يختلفون معها خضوعا لانتماءاتهم الحزبية غير الوطنية التي تتصادم – حتما – مع آراء الأمير جملة وتفصيلا، فضلا عن أن لهذه الشخصية نتاجها الإبداعي المتشعب أيضا.
من المعلوم أن فنّ السّيرة - بفرعيه: الذّاتي والغيريّ - قد نشأ تابعاً للتّاريخ، مرتبطاً به، كما يقرر الدكتور إحسان عباس في كتابه: «فن السيرة»، ولقد كان ذلك الارتباط أظهرَ عند العرب والمسلمين؛ وهو ما علله الدكتور إحسان بقوله: «لأنّ المؤرّخين المسلمين كانوا يرون السّيرة جزءاً من التّاريخ، بل يرون أنّ التّاريخ ليس إلا سير الحاكمين»، ومن الجملة الأخيرة أقرر أن من المهم – عند تجنيس كتاب الفيصل - التنبه إلى أمرين، هما:
أولا: علاقة السيرة الذاتية بالتاريخ العام، وذلك عائد إلى كون المؤلف صاحب دور محوري في التاريخ السعودي، وبخاصة التاريخ التنموي.
ثانيا: الشّروط التي يجب أنْ تتوافر في العمل مدار المقاربة ليكون على صلةٍ بالفن؛ لأن السيرة الذاتية فنّ لغوي قريب إلى فنون السرد، حتى إن بعض النقاد يعده فناً سردياً خالصاً كالقصة والرواية والأقصوصة.
الباحثون يشترطون في السيرة الذاتية شروطاً كثيرة، منها: الامتداد الزمني، والتسلسل التاريخي، والصدق، والشمول، والاعتراف، وعدم التكرار، وعدم سرد الأحداث الهامشية، وبعضهم يزيد الاعتماد على المصادر، وهي شروط يندر أن تجتمع حتى في الأعمال السيرية المشهورة، لكن وضْع القوالب هيّن عند المقعّدين؛ ولذا لم ألتفت إليها بوصفها شروطاً يتحتم تحققها مجتمعة، وإنما استأنست بها بوصفها إطارات عامة لفن السيرة.
وعلى الرغم من عدم الالتفات إلى اجتماع هذه الشروط، فإنني أجزم – بمزاجي - بأن كتاب خالد الفيصل: «إن لم... فمن..!؟»، ليس سيرة ذاتية تامة شاملة، مثلما جزمت من قبل – بمزاجي - بأن كتابه: «مسافة التنمية وشاهد عيان»، ليس سيرة ذاتية خالصة؛ ذلك أن الكتابين يقدمان للقارئ ملامح من حياة الأمير وشخصيته وأعماله وميوله وتوجهاته ولغته، لكنهما لا يسردان أحداث الحياة سرداً شمولياً، يأتي على تفاصيل نشأة خالد الفيصل وحياته كلّها دون استثناءات أحداثية، أو تضمينات رسمية، ودون حذف الصراعات الفكرية وأزمنتها وما حفّ بها من آلام ومظالم، مما يجعلنا أمام سيرة ذاتية جزئية نحاول تركيب أحداثها تركيباً اجتهاديا كي تكتمل أمامنا الصورة، وبذا فإنها لا تُغني برغم ثرائها، ولا تُروي برغم شبهها بالماء الزلال لغةً وتبويباً وإخراجاً.
الحكم السابق، يسوّغ التأكيد على أهمية أن يكتب خالد الفيصل بن عبدالعزيز سيرته الذاتية كاملةً غير مجزوءةٍ أو منقوصةٍ، عبر أكثر من سبعة عقود مملوءة بالأحداث، والعطاءات، والأفعال، والأقوال، والمواقف، والمشكلات، والمعوقات، والصراعات، والنجاحات، والإخفاقات، والصواب، والأخطاء، لتكون هذه السيرة جزءاً من التاريخ السعودي من خلال الأنموذج، والتأكيد - هنا - نابع من الإيمان بأن سيرة خالد الفيصل حق عام، مثلما أن الأمير شخصية عامة، وللأجيال الحق في قراءة سير رموزها، وحيوات أصحاب الأثر في مآلها، ومعرفة طرائقهم في التعامل في المواقف الحياتية والعملية والفكرية، والعلم بالعوامل المؤثرة في شخصياتهم، والمنابع المكوّنة لأفكارهم، والمحددة لزوايا نظرهم إلى الحياة والأحياء، دون تزيّد أو تنرجس؛ لتكون هذه التفاصيل إضافات حقيقية إلى التاريخ الوطني العام؛ لأنها - هنا - تفاصيل حياة أحد صانعي التاريخ السعودي الحديث، وتلك حقيقة لا مراء فيها ولا جدال حولها عند الموضوعيين المستقلين السليمين من داء التعصب للانتماءات «إياها».