سمير عطا الله

 حتى السبعينات كانت مصر مدرسة وجامعة العالم العربي، أو الجزء الأكبر منه. جزء آخر كان في بيروت، حيث كرّست الجامعة الأميركية نفسها كإحدى أهم المعاهد حول العالم، واتجه بعض الطلاب من أهل الخليج إلى بغداد، قبل أن تصبح جامعتها وأساتذتها في عهدة وإمرة، صهر صدّام حسين. لكن بغداد المعاصرة لم تعد يوماً إلى مجدها العلمي في عصور النهضة الكبرى.

دائماً كان هناك مركز علمي تعود إليه الشعوب على اختلافها. فإن لندن لا تزال، على سبيل المثال، المعهد الأول للطلاّب الأجانب من جميع الجنسيات والبلدان، المتقدمة أو الأقل تقدماً. ولقد لعبت هذا الدور منذ أن فتحت أبوابها أمام الطلاب القادمين من المستعمرات، خصوصاً الهند. كذلك امتلأت جامعات باريس بالطلاب القادمين من أفريقيا الخاضعة للحكم الفرنسي. وإذ يبرز اسم الحبيب بورقيبة، كأول زعيم عربي يفرض إلزاميّة التعليم، يبرز إلى جانبه أنه حمل الفكرة من مستعمريه، مثل نهرو، أو مثل طه حسين، العائد من باريس ليفرض مجّانية التعليم في مصر.
لعلّ أعمق مثال على التعلّم من المستعمر، أو العدو، كان في الصين. فعندما اكتشف الصينيون أن الاستعمار قد سحق حياتهم، وحتى كرامتهم البشرية، تذكروا أن أوروبا التي كانت في القرن السابق دونهم بكثير في مستوى المعيشة، أصبحت هي المستعمِرة الآن. وقد طلب بعضهم العلم في باريس. ومن أبرزهم شو أون لاي، ودينغ سياو بينغ، إضافة إلى الفيتنامي هوشي منه. غير أن معظم الصينيين لم تكن لديهم القدرة، أو الوسيلة، للوصول إلى ضفاف السين، فتوجهوا بأعداد كبيرة إلى العدو شبه الدائم، اليابان. وفي طوكيو أصدر النهضويّون الصينيون الصحف والمجلات التي تنطق باسم الإصلاحيين. ومن هذه المجلات، بدأ ماو تسي تونغ، وهو في السادسة عشرة من العمر، قراءة الكتّاب والمفكرين الذين سوف يغيّرون حياته وحياة الصين. وأوائل القرن الماضي، كان الملوك من الصينيين يعودون من اليابان إلى بلادهم لكي يتسلموا المناصب والمَهام القيادية. وحملوا معهم كلمات تدخل للمرة الأولى على لغتهم، مثل «ديمقراطية» و«شيوعية» و«رأسمالية».
كان أبرز مفكر المرحلة رجل يدعى سيولنغ، الذي عاد هو أيضاً من اليابان ليكتب: «لقد استمرّت الطرق القديمة التي نتمسك بها دون تفكير، ثلاثة آلاف عام بسبب مكابرتنا وخمولنا الذهني. ولذلك؛ بقيت الأمة والمجتمع والعادات والطقوس والفنون والعلوم والفكر والأخلاقيات والقوانين، من دون أي تغيير طوال ثلاثة آلاف عام». لكن هل كان من الممكن تحديث الصين من دون القضاء على حضارتها؟ جاء الجواب من اليابان التي أصبحت أكثر بلدان العالم تقدماً، فيما بقيت الثقافة اليابانية على عمقها الأول.