سميرة المسالمة

استطاع بشار الأسد أن يعيد ترتيب أوراقه دولياً لثلاث مرات متتالية، خلال سبع سنوات من عمر ثورة السوريين، إذ تحول بداية من حليف استراتيجي لإيران وميليشياتها، إلى ورقة تفاوض روسية في مرحلة لاحقة، مهدت لدخول روسيا عسكرياً (عام 2015) إلى ساحة الصراع الدولي على سورية، واستطاعت موسكو من خلال ذلك أن تضع كل ملفاتها العالقة أوروبياً وأميركياً وإقليمياً على طاولة البحث أو المساومة من جديد، ثم بات بشار أخيراً- بمساعدة روسيا وإيران- بمثابة «شريك» للمجتمع الدولي ضد إرهاب الإسلام المتطرّف، بشقيه «داعش» و «القاعدة» (النصرة). 

حصلت هذه التحولات في الوقت الذي كان يحافظ نظام بشار على أدواره المتعاقبة، من دون التفريط بأي من حلفائه، بل وبتضييق دائرة خصومه، كما ظهر في الآونة الأخيرة، في انزياحات وإنكارات للمواقف المعلنة التي اتخذها البعض ضد وجوده، كشخص وكنظام في حياة السوريين الحالية والمستقبلية.

في المقابل لم تستطع المعارضة السورية، وأقصد هنا كياناتها التي تدعي تمثيل مصالح الثورة ضد نظام الأسد، التعامل مع المجتمع الدولي إلا من خلال افتراضات أخلاقية، تبيّن لاحقاً أنها مجرد أوهام، فقد كان هذا المجتمع يتراخى أمام الانتهاكات المتكررة التي ارتكبها النظام السوري والميليشيات الحليفة له، مكتفياً بترديد بيانات الاستنكار تارة، أو زيادة حجم المساعدات «غير القاتلة»، كما كان يسميها، حيناً آخر، وفي كثير من الأحيان اعتبر صمته على تغلغل الفصائل المتطرفة تحت مسمى المعارضة رداً على قرار روسيا الوقوف إلى جانب النظام وحمايتها له من كل قرار دولي يدينه.

بيد أن تقديم الأسد اليوم وفق النسخة الروسية كشريك في المعركة الدولية ضد الإرهاب، يأتي ضمن الخطة الأميركية التي تتوخّى تحويل روسيا من حليف للأسد إلى دولة وصاية ممتدة النفوذ على كامل سورية، على الأرجح، مقابل تقليص نفوذ إيران الذي ترغب دول الجوار إبعادها جغرافياً وسياسياً وعسكرياً عن ملفات المنطقة، وهو الدور الذي لعبته إسرائيل في علاقتها المزدوجة مع روسيا والولايات الأميركية، كما أنه ضمن ما أرادته الإدارة الأميركية السابقة، لتوريط روسيا أكثر في مستنقع الحرب من جهة، ولإعادة صياغة التحالفات الدولية، وترتيب أوليات الأنظمة العربية داخل مجتمعاتها وضمن علاقاتها البينية، بما يخدم المصالح الأميركية ويضمن الأمن القومي الإسرائيلي.

تركت واشنطن ملف الصراع السوري منذ أن ضمنت لروسيا توافقات سياسية جديدة في اجتماع لوزان (تشرين الأول- أكتوبر 2016)، الذي جمع القوى الدولية والإقليمية والعربية التي تقف خلف الأطراف المتصارعة داخل سورية، لأسباب وطنية، ولأسباب أخرى. وللتذكير فقد كان هدف الاجتماع المذكور، تأكيد خروج القضية من أيدي السوريين معارضة ونظاماً، وإحلال مرجعية جديدة للمفاوضات تحل مكان القرارات الدولية التي كانت تستهدف إنهاء نظام الأسد، وإقامة هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، والعودة بعد ذلك إلى مسار مفاوضات يعتمد على ما اتفق عليه الجانبان الأميركي والروسي في 9 أيلول (سبتمبر) 2016.

لم تيأس روسيا في مسعاها منذ أن أصبحت الوصي الشرعي على النظام، واستمرت في استبدال المرجعيات، بتوافقات فيينا ثم اجتماعات لوزان التقنية إلى مسار آستانة التفاوضي، وأخيراً الاجتماع الأخير لمنصات المعارضة في الرياض.

في المقابل لم تخرج المعارضة من أوهامها بعد، في شأن أن المجتمع الدولي لن يصمت أمام جرائم النظام وميليشياته الطائفية، وافتراض أنه سيعمل على إسقاط النظام، وتسليمها السلطة، كأنه يشتغل عندها، ليتيح لكل واحد من كياناتها إقامة دويلة مختلفة (كل حسب مرجعياته) من إسلاميه حتى علمانية، من دون أن تجتهد في تقديم المشروع الوطني الجامع لكل السوريين، ومن دون أن تقدم خطاباً مقبولاً يتناسب مع تضحيات السوريين قبل نشوء واصطناع المشاريع المتطرفة، التي صمتت المعارضة وتمادت في صمتها عليها، بل إن بعض قادتها دافعوا عنها، وبرروها، حتى انتصرت خطابات هذه المشاريع على خطاب الثورة وأصحابها.

في ظل هذه التطورات الكارثية، الحاصلة خلال السنوات السبع الماضية، ما زالت المعارضة تعيش إخفاقاتها، وما زالت عاجزة عن مواجهة نفسها، مستمرئة لعبة التمثيل، والمنصات، والقبول بعد الرفض، وهو ما عودتنا إليه، فقط لتعويم مكانتها كقيادة معارضة عند القوى الدولية والإقليمية الفاعلة وليس عند السوريين، مع الأسف، ولحساب الأجندة الخارجية، وليس لمصلحة أجندة السوريين، أو لمصلحة الارتقاء بكياناتهم الثورية. 

هذا ما يحصل مع الأسف، في حين يقوم النظام باستعادة إحكامه على ما تبقى من سورية، من خلال هدن روسيا والصمت الدولي، وفبركة منصات وتفاهمات تقنية ومؤتمرات، والأهم من هذا وذاك، من خلال التحالفات الدولية والإقليمية الجديدة التي تبدد أوهام الصداقات مع الشعوب وثوراتها، من قبل أنظمة لا تسأل سوى عن مصالحها الآنية والضيقة.

تجاوز المجتمع الدولي أسد روسيا، ومعارضة المنصات لبعضها البعض، وقد عقد تفاهماته ليس بين الدول وحسب، بل وبين المكونات التي يريد تقويتها على حساب مكونات أخرى، في الوقت الذي ذهبت المعارضة إلى تمزيق نفسها، لتجلس في مؤتمر الرياض-2، كمنصات وهيئات ومنظمات وتيارات ومجالس وعرب وأكراد وعشائر وشخصيات مستقلة. 

وكما شهدنا فإن هذه المعارضة التي كانت رفضت بيان جنيف في حينه باتت تطالب به اليوم، وهذه المعارضة التي كانت تحابي «جبهة النصرة» أمس هي ذاتها التي باتت تتبرأ منها اليوم، أي بعد فوات الأوان في الحالين، لذا ليس مستغرباً أن هذه المعارضة حضرت اجتماع الرياض الأخير مع من كانت رفضتهم في مؤتمر الرياض-1، ورفضت التوقيع على ما ستوافق عليه غداً، انصياعاً لرغبة هذا الطرف أو ذاك، ولتعويم وضعها، من دون أي صلة بما دفع السوريون ثمنه دماً ومدناً وحاضراً ويخشى على ما تبقى مستقبلاً، ومن دون أي صلة بما يفترض عليها فعله لتطوير أحوالها، ولاستعادة مسار الثورة وتقويم أوضاعها.


* كاتبة وإعلامية سورية