توفيق السيف

 ربما لم يطلع كثير من الشباب على كتاب «شمس العرب تسطع على الغرب» للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه، الذي لقي استقبالاً حافلاً يوم نشر في 1964. وتقول المؤلفة إنها أرادت تذكير الأوروبيين بأن حضارتهم مدينة في انطلاقتها لعلوم المسلمين القديمة.

كنت قد انجذبت للكتاب بعدما رأيت كثيراً من الكتاب يستشهدون به لإثبات سبقنا للغرب وفضلنا عليه. شاركت أنا أيضا في تلك المفاخرة، ولعلي تخيّلت نفسي متصلاً بصناع تلك المفاخر.
رجعت للكتاب بعد ثلاثين عاماً على وجه التقريب؛ لكن خلافاً للمرة الأولى، راودني شعور بخيبة الأمل، وخامرتني أسئلة مريرة، محورها: لماذا توقف الحراك العلمي القديم؟ ولماذا نعجز عن استئنافه أو ابتكار بديل عنه، كي نفخر بإنتاجنا بدل الفخر بمنجزات الأسلاف التي لم نسهم فيها بشيء؟
إن التأمل في الكتاب نفسه يقدم جواباً معقولاً لتلك الأسئلة. فهو يوضح ضمنياً أن رؤية البشر لكل من الدين والعالم – الطبيعة، تتحرك بين الانقباض والانبساط، بين الغموض والوضوح، تبعاً لاتساع معرفتهم بالعالم المحيط بهم. هذا يثير سؤالاً فحواه: هل ينبسط العالم؟ هل تتوسع معرفتنا به أولاً فينبسط الدين تبعا لذلك؟ أم تتسع معرفتنا بالدين فنتخذه أداة لفهم العالم - الطبيعة؟ 
فحوى السؤال الأول أن الطبيعة هي التي تشرح الدين. فاتساع المعرفة بها يولد معارف دينية جديدة. أما السؤال الثاني فمعناه أن الدين هو الطريق لمعرفة العالم، وما علينا غير توسيع معارفنا الدينية كي يزداد فهمنا للعالم.
تبنت الكنيسة الكاثوليكية المعنى الثاني، حتى القرن الثامن عشر على الأقل، فاعتبرت أن حقائق العالم مختزنة في الكتاب المقدس أو العلوم المتصلة به. ومال التيار العام في الإسلام إلى المعنى الأول في بداية الأمر، فقد تطور علم الشريعة تبعاً لتطور الفلسفة والرياضيات والعلوم الطبيعية. واستمر هذا الحال حتى القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي).
أما في الحقب اللاحقة، فالواضح أن حركة العلم تعثرت في الاتجاهين. وفي وقت لاحق انبعث الاهتمام بعلم الشريعة منفرداً، بينما تلاشى الاهتمام بالعلوم الأخرى. ونتيجة لهذا فقد افتقر علم الشريعة للأسئلة الجديدة، وتمحور حول إعادة إنتاج الموروث من دون تجديد لافت. واستمر هذا الحال حتى اليوم.
نعلم أن الإسلام اهتم - نظرياً على الأقل - بدنيا الناس، قدر اهتمامه بآخرتهم. ولدينا ذخيرة ضخمة من النصوص التي تؤكد هذا. لكن التأمل في واقع الحال يخبرنا أن الدين لا يقود حياتنا؛ لأنه في الأساس غير متصل بها.
رغم شدة اهتمام المسلمين بدينهم وشوقهم لمعرفة تفاصيله، فإن تأثيره في حياتهم سطحي جداً. ولعلي لا أبالغ لو قلت إن دور الدين في حياة المسلمين لا يتجاوز الطقوس والشكليات والبلاغة اللفظية، أما جوهر حياتهم فيتشكل على ضوء العلوم والتقنيات التي نستوردها جاهزة من الغرب. توقف الحياة العلمية، اضطرنا لاستيراد منتجات العلم من الخارج، كما أدى إلى توقف التطور في علم الدين، وفي نهاية المطاف انفصلت الشريعة عن العصر، فلم تعد قادرة على التفاعل مع حياة أتباعها.
ما نسميها اليوم دعوة دينية ليست سوى محاولة لفرض الصبغة الدينية على حياة المسلمين، وهي مهمة سوف تنجح - بسبب عوامل خارج إطار الدين - لكن تأثيرها سيقتصر على المظهر الخارجي؛ لأنه مجرد صبغة.
زبدة القول: إن تأثير الدين في دنيا المسلمين مشروط بكونه مزامناً لحياتهم متفاعلاً معها (لا فاعلاً فقط ولا منفعلاً فقط). الخطوة السابقة لهذا هي كون حياة المسلمين من صنع أيديهم، أي كونها نتاجاً للمعرفة التي ينتجونها في بيئتهم وعلى ضوء حاجاتها. بكلمة أخرى، فإن إعراض بعضنا عن إنتاج العلم والتقنية، ومواصلة استيرادها من الخارج، يجعل تديننا مجرد صبغة خارجية لبناء غريب.