عبدالرحيم أبو حسين

يصوّر البحث التّاريخي الحديث العلاقات العثمانيّة- الدّرزيّة بصورة إيجابيّة دوماً، وذلك استناداً إلى التّأريخ اللبناني التّقليدي المكتوب. ويسود الاعتقاد في تلك الدّراسات بأنّ السّلاطين العثمانيّين والصّدور العظام قد منحوا القادة الدّروز ألقاباً شـــرفيّة ومناصب رفيعة خلال القرنين السّادس عشر والسّابع عشر. 

وقد افتُرض أنّ هذا الأمر حدث منذ الأيّام الأوّلى للحكم العثمانيّ في بلاد الشّام، عندما كان السّلطان سليم الأوّل في دمشق، وهناك، وفق تلك المصادر، استقبل قادةً لبنانيين، وخلع على أحدهم- فخر الدّين المعني- لقب سلطان البرّ.

لقد واجه العثمانيّون في بلاد الشّام خلال القرنين المذكورين تحديات في مناسبات عدة، وفي أماكن مختلفة من المنطقة، وكان التّحدي ينطوي على أخطار شديدة أحياناً، كما كان الحال في التّمرّد الذي قاده علي جانبولاد في مطلع القرن السّابع عشر، حيث اعتبر محاولة للحصول على الاستقلال الكامل عن الدّولة العثمانيّة، وتلقّى دعماً خارجيّاً كبيراً، خاصّة من قبل بعض القوى الأوروبية الدينيّة والسّياسيّة. 

وفي أحيان أخرى، كان مصدر التّحدّي مجرد هجمات محدودة للقبائل البدوية الواقعة على طول طريق الحجّ إلى الحجاز، أو في مناطق أخرى من صحراء بلاد الشّام. إلّا أنّ مثل هذه التّهديدات الخطرة وغير الخطرة لم تكن طويلة الأمد، إذ سرعان ما كانت السّلطات العثمانيّة تستعيد سيطرتها على المناطق التي شهدت مثل هذه الانتفاضات.

لم يكن الوضع على هذا النّحو في المناطق الدّرزيّة في لبنان، فقد انفجر التّمرّد مراراً و تكراراً بين 1518 و1697، وكان الأمر دائماً مبعث قلق السّلطات العثمانيّة الإقليميّة والمركزية على حدّ سواء. ومن وقت إلى آخر كانت تلك السّلطات تضطر إلى توجيه حملات تأديبيّة ضدّ المتمرّدين الدّروز، أو تلجأ إلى اتّخاذ ترتيبات إداريّة جديدة لمعالجة الوضع. وكما سيتبين لاحقاً فإنّ الأسلوبين كانا يطبّقان في وقت واحد أو يطبق أحدهما دون الآخر في أوقات أخرى.

سأحاول في ما يلي أن أتعقّب مسار هذا التّمرّد الذي شكلّ ظاهرة طبعت القرنين الأوّلين من الحكم العثمانيّ في لبنان وبلاد الشّام. لكن من الجدير بالذّكر أنّ الدّراسات الحديثة حول تاريخ المنطقة لا تلحظ هذا التّمرّد. فباستثناء النّزاعات المتكررة بين القائد الدّرزي المشهور فخر الدّين المعنيّ (المعروف بالثّاني) والسّلطات العثمانيّة في النّصف الأوّل من القرن السّابع عشر، تصوّر هذه الدّراسات العلاقات الدّرزيّة- العثمانيّة عامّة على أنّها علاقات يسودها الوئام- وهذا الاستنتاج يرتكز كلّيّاً على المصادرالمحليّة.

وبالإجمال كان القرنان السّادس والسّابع عشر فترة السّيطرة المعنيّة السّياسيّة على جنوب لبنان، وعلى شؤون الدّروز التي كانت إلى حدّ كبير تختلط وتتشابك بشؤون المعنيين أنفسهم. ومن المثير للاستغراب أنّنا لا نجد مصادر محلية درزيّة لهذه الفترة باستثناء تاريخ ابن سباط الذي يؤرّخ للسّنوات الأربع الأوّلى من الحكم العثمانيّ لبلاد الشّام، ويكتفي بإشارات عابرة إلى بعض أفراد الأسرة المعنيّة. 

أمّا الكتابات التّاريخيّة العثمانيّة المتوفّرة لدينا عن تلك الفترة فكان اهتمامها منصبّاً على التّطورات السّياسيّة في العاصمة وعلى الحروب الخارجيّة للدّولة العثمانيّة، ولذا لا يرد فيها سوى إشارات عابرة إلى ما يبدو للنّاظر من إسطنبول مجرّد مشكلات محليّة تحدث في أطراف الإمبراطوريّة.

لم تكن الكتابات عن هذا الموضوع محدودة فقط، بل كانت تعتمد على مصدر واحد يعكس هوى صاحبه. وهذا المصدر الوحيد هو تاريخ البطريرك المارونيّ إسطفان الدّويهي الذي تربّع على السّدّة البطريركية من 1668 إلى 1704. 

ولأسباب عدة سوف يتم توضيحها لاحقاً، فإنّ الدّويهي يصمت صمتاً مريباً عن معظم مجريات هذا التّمرّد، ولا يشير إلى الهجمات العثمانية المبكّرة على المناطق الدرزية ، بل يكتفي أحياناً مضطراً بشرح بعض أحداثه بطريقة يبرّئ فيها قادة التّمرّد من أيّ مسؤوليّة. 

وربما كان الأهم بالنّسبة إليه التّغطية على أيّ دور أوروبي كاثوليكي في التّحريض على ذلك التّمرّد. ومن المؤكد أنّ الدّويهي بسبب موقعه الكهنوتيّ كان على علم بالعلاقات بين البابا وآخرين من القوى الأوروبية الكاثوليكية مع الدّروز. ولكن لم يكن من مصلحة طائفته، ولا من مصلحة أصدقائه من القادة الدّروز أن يشير إلى مثل هذه العلاقات.

لقد تطرقت في كتابات سابقة إلى بعض جوانب وأحداث محددة من تمرّد الدّروز، ولكن رؤية الحوادث مجتمعة تقود إلى الخلاصة التّالية: أنّ هذه الأحداث جميعها لم تكن إلّا فصولاً متتالية مما شكّل التّمرّد الطّويل. كان الفصل الأخير في هذا التّمرّد ذلك الذي قاده أحمد معن، آخر الأمراء المعنيين وآخر أمير درزيّ لما كان يسمى الإمارة اللبنانية أو المعنية. ولدى التّمعّن في سيرة هذا الأمير على ضوء الأدلّة التي تقدمها لنا وثائق «دفتر الأمور المهمّة»، تظهر صورة مختلفة جذرياً للرّجل. وما تكشفه هذه الوثائق بخصوص أحمد معن، وموضوع العلاقات الدّرزيّة- العثمانيّة إجمالاً، يقلب رأساً على عقب ما هو متعارف عليه حول هذا الموضوع.

إنّ الأسئلة التي تطرحها هذه الدّراسة وتحاول الإجابة عنها هي التّالية: متى وكيف ولماذا بدأ العداء بين الدّروز والعثمانيّين؟ وكيف ظهر هذا العداء في المرحلة التي نحن بصدد دراستها؟ وما الأثر الذي تركه على الأحداث التي تلته في لبنان؟


* أستاذ التاريخ العثماني في الجامعة الأميركية ببيروت.