سمير عطا الله

كان غسان تويني من عائلة بيروتية بورجوازية، أو بالأحرى، أرستوقراطية. ذهب إلى دراسة الفلسفة في هارفارد بعد جامعة بيروت الأميركية. لكنه قطع دراسته بعد وفاة والده وهو سفير لدى تشيلي يحاول كسب الأصوات ضد قرار تقسيم فلسطين.

كان أنيقاً في كل شيء، بحيث بدا للذين لا يعرفونه متكبراً. حاول كثيراً إبعاد هذه السمعة، خصوصاً عندما كان يخوض المعارك الانتخابية. عندما تكون قريباً من أحد، يصعب عليك أن ترى مزاياه، أو بالأحرى جميعها. وتكون حروب الاسترضاء حوله كثيرة، ولم أقربها مرة. 

كنت دائماً واثقاً كلياً بمدى ذكائه وإدراكه، وخصوصاً سعة صدره. ولا بد من أنني في السنوات التي عملتها معه، أخطأت؛ وفي كل المرات تجاوز الخطأ، ثم يلمح إليه من بعيد بعد مرور السنين. أما حين آتي عملاً جيداً، فكان لا يترك اليوم يمضي، من دون مبادرة ما.

هكذا عامل الجميع. وعندما أعود دائماً إلى ذكرياتي معه، أكتشف إلى أي مدى كان جباراً كإنسان، وعملاقاً كصحافي. لكن البورجوازي الأرستوقراطي كان، أكثر من أي شيء آخر، قائد أوركسترا بمرتبة فاغنر. كان إدارياً دقيقاً، ويعتبر المكافأة جزءاً من الإدارة الجيدة. أو من علم الإدارة، إذا شئت.

ومما لا أنساه أنه في الأعياد كان يتصل أولاً، ببائع الصحف «أبو علي» في الحمراء، الذي كان كبير الباعة في بيروت. ومن ضيوفه إلى الغداء، إلى جانب «أبو علي»، كان معلم الطباعة، حيث تطبع «النهار» قبل أن تصبح لها مطبعتها الخاصة. 

وكان كل يوم يمازح ويتقبل مزاح بائع القهوة في الدار. وكان يوسف عجوزاً يعمل في «النهار» منذ أيام مؤسسها جبران تويني. رغم مظهر يوسف، البائس، وأحياناً المضحك، رفض غسان تويني «تحديث» القهوة في المبنى إلا بعدما خرج يوسف ذات يوم بلا عودة.

ذات يوم دخل على صحافة بيروت مدير جديد ومعه هاجس المحافظة على صحيفته، ومنافسة «النهار» أو مقاربتها. واكتشف أن الخلل الأساسي هو أن الصحافيين العاملين معه، أو «عنده» على الأصح، لا يبقون طويلاً. ومرة كان في غضب عصيب فسألني: «أريد أن أعرف لماذا يبقون في (النهار) ونحن يتركوننا؟».

رويت له حكاية زميل على كثير من المهنية والاعتبار، طلب منه هو أن يذهب لإجراء تحقيق إعلاني في مصانع «بون جوس». وذهب الزميل إلى بيته، وبعدها إلى «النهار»، حيث لا يزال إلى اليوم. وقد جاوز بعض الزملاء الأحياء في «النهار» التسعين من العمر، ولا تزال أقرب إليهم من بيوتهم.

أتذكر دائماً «لماذا يبقون في (النهار)؟»، لأن غسان تويني رفع عالياً قيمة المحرر والعامل وبائع الصحف. وبحث عن المواهب وشجعها. وعندما بدأ أمين معلوف العمل في الثانية والعشرين، قرر الزواج، فاستدعاه غسان تويني وقال له: «براتبك لا تستطيع الزواج. إليك الزيادة التي تقررت».