رضوان السيد

على مدى أسبوعٍ وأكثر، ما عاد حديثُ الإعلام في لبنان عن الشهداء من عسكريي الجيش، الذين قتلهم «داعش»، وحال اتفاقُ «حزب الله» مع الدواعش دون محاسبتهم أو معاقبتهم. بماذا انشغل الإعلامُ المرئي والمكتوب إذن؟ انشغل بأخبار قافلة «داعش» التي قادها «حزب الله» بباصات مدارس المهدي عبر الأراضي التي يسيطر عليها النظام السوري - باتجاه مدينة البوكمال على الحدود العراقية، والتي يسيطر عليها «داعش»! والأميركيون أوقف طيرانهم القافلة بطلبٍ من الحكومة العراقية (!). 

لكنْ، حتى النظام السوري العظيم والحريص جداً على أرواح الناس، ما كان مسروراً بالصفقة الإيرانية مع «داعش» علناً. ولذلك؛ قال نصر الله إنه ذهب للقاء الأسد ليطيّب خاطره، ويحصل على موافقته على الصفقة والقافلة بعد إذ عجز سليماني فيما يبدو عن ذلك! ولا ينبغي أن نستغرب هذا الإعزاز من جانب كل الجهات القاتلة بنصر الله، فهو ما كان مشغولاً وحسْب بالقافلة «لأسبابٍ إنسانية»، كما ذكر هو ومسؤولو الحزب ووزارة الخارجية الإيرانية؛ بل كان أيضاً في الوقت نفسه على تواصلٍ مع الحوثيين وعلي عبد الله صالح بصعدة وصنعاء من أجل التهدئة فيما بينهما!

إنّ هذه الظاهرة التي انكشفت تماماً الآن تستحق بالفعل الاهتمام من أجل الفهم والمواجهة. فنحن نعلم أنه ومنذ الستينات والسبعينات من القرن الماضي، كان هناك تعاوُنٌ وتسانُدٌ بين الإحيائيات والأصوليات السنية والشيعية. وكان المقصود هدم الدول الوطنية باعتبارها متغربة وضد الدين الإسلامي. وقد نجح الأصوليون الشيعة من قلب المؤسسة الدينية في إسقاط الدولة الوطنية في إيران، وأقاموا نظاماً لاهوتياً وأمنياً لا يزال يضع في دستوره وعلى راياته شعارات تصدير الثورة. وليست هناك متابعة دقيقة لتطور علاقات النظام الخميني مع الإخوان المسلمين ومع مقاتلي «القاعدة». 

لكننا نعلم الآن أيضاً أنه باستثناء الإخوان المسلمين السوريين؛ فإنّ كل الآخرين (وفي مصر وتونس على وجه الخصوص) ظلُّوا على علاقة بالنظام الإيراني. أما قاعدة أُسامة بن لادن والظواهري فقد توزعت «ساحات الجهاد» بينها وبين الميليشيات الإيرانية، بحيث تشاركوا في التدريب، واختصت إيران وميليشياتها عبر «حماس» و«الجهاد» وبالمباشر (حزب الله) بالنضال ضد إسرائيل؛ بينما انصرفت «القاعدة» إلى «الجهاد» البعيد في أميركا وأوروبا، والقريب في الدول الإسلامية والعربية السنية. 

ولدينا الآن تعليمات ووصايا أسامة بن لادن بعدم الاصطدام بإيران، ولجوء كثير من كوادر «القاعدة» من أفغانستان بعد 2002 إلى إيران، والتسرب إلى العراق وسوريا من إيران أيضاً. وعندما أطلق النظام السوري مسجونين لديه عام 2012 شاركوا في إقامة «جبهة نُصرة أهل الشام»، قيل وقتها إنّ هناك مصلحة مباشرة للنظام السوري والإيراني أن يعلن هؤلاء عن انتمائهم لـ«القاعدة» (كما حصل بالفعل) لكي يصبحوا جزءًا من الإرهاب الذي تقاتله الولايات المتحدة، وبذلك تفشل الثورة السورية التي كان هدفها إسقاط بشار الأسد، وإخراج إيران من سوريا. 

وبالفعل، فإنّ «النصرة» وبعدها «داعش» ما سيطرا إلا في مناطق سنية، وقد قاتلت «النصرة» أحياناً النظام، وأحياناً «حزب الله» في القلمون، لكنها قاتلت أكثر ودائماً فصائل الثورة الأُخرى، وآخِر الشواهد ما حصل في إدلب وقُراها. ونحن نعلم الآن أنّ الأمر ما كان ذكاءً وتوقعات من سليماني والأسد والحزب؛ بل إنّ التعاون قائمٌ بين نصر الله والجولاني في سوريا، ومنذ العام 2013. وما اختلفوا إلاّ على بعض المواقع في القلمون وجوار دمشق. 

أما المواقع التي قاومت كثيراً الحزب والميليشيات الإيرانية الأُخرى مثل الزبداني ومضايا؛ فما كانت جبهة النصرة بارزة فيها. ولذلك؛ ليس غريباً أن يتفق الحزب مع «النصرة» في جرود عرسال، وأن يزودوا أبا مالك التلي بدولاراتٍ قطرية.

أما نشأة «داعش» فكانت أكثر غموضاً. وما انضربت «داعش» أو بدأت تنضرب في العام 2016 إلاّ لسببين: تخلّي الأتراك عنها، والقصف الدولي. إنما يبقى غامضاً علاقاتها السيئة مع «النصرة» دائماً، وكيف سقطت المدن العراقية، وعلى رأسها الموصل بيد تنظيم الدولة هذا. وعناصر قوة التنظيم العسكرية أهمها دخول بقايا من الجيش العراقي القديم فيها ومعها، ومجيء الأجانب الكُثُر إليها من خلال تركيا. 

فليس صحيحاً أنّ التنظيم جاء من سوريا إلى العراق، بل الأصحّ أنه جاء من العراق إلى سوريا أو أنّ تمكينه في سوريا كان بسبب عناصر القوة في الجزء العراقي. إنما الأهم أنّ «داعشاً» ما اصطدم بما يسمى «حزب الله» ولا بالإيرانيين لا في سوريا ولا في العراق تقريباً. 

وحتى الروس ما بدأوا بمصادمة «داعش» إلا عام 2017. ولنتأمل مشهدين، أولهما عدم زحف التنظيم باتجاه سامراء وبغداد بعد الاستيلاء على الموصل وانهيار سائر الجبهات، وعدم الاقتراب من الحدود الإيرانية في ديالي - والاستعاضة عن كلا الأمرين بالهجوم على كردستان، والتي كادت تسقط لولا التدخل الأميركي والمساعدات الأوروبية العاجلة. 

وهذا المشهد الأهم له دلالاتٌ كبرى وباقية. والمشهد الآخر هو وصول التنظيم بعد احتلال تدمر الأول إلى منطقة القريتين بجوار حمص، مع وجود «حزب الله» في المنطقة. وكما راهن كثيرون ليلة اقتراب التنظيم من سامراء على تقدمه باتجاه بغداد؛ بينما ذهب التنظيم في اليوم التالي باتجاه كردستان - راهن كثيرون على اصطدام «حزب الله» بـ«داعش» في منطقة القريتين وعند آبار النفط والغاز. وفي هاتين الحالتين ما حصل صدام، فقد انسحب الحزب عشرات الكيلومترات إلى الوراء، بينما انسحب التنظيم عشرات الكيلومترات من حول القريتين وآبار النفط والغاز عندما أخرجه الروس من تدمر للمرة الثالثة؛ ويحلُّ محلَّه الآن هناك قوات مشتركة من الحزب والنظام والروس!

كلُّ ما قلناه هدفه التوثيق والمتابعة من أجل الفهم وتقدير التطورات؛ لأنني أنتظر أن يكونَ لهذا التعاوُن مستقبل. أما بالنسبة لـ«القاعدة»؛ فأغلب الظن أنّ الظواهري في إيران وسيؤثر ذلك في حركة «جبهة فتح الشام» فيما بين سوريا وأفغانستان. وأما بالنسبة لـ«داعش»، فنحن نعلم أنّ القافلة الشهيرة، وصلت بعض باصاتها إلى مشارف دير الزور، وانضمت باصاتٌ أخرى إلى قوات النظام السوري، وربما يذوب الثلث الثالث في قوات المتأيرنين وحشودهم في شرق سوريا وشمالها وجنوبها. 

ولنتذكر آخر ظهور لأبي بكر البغدادي قبل عام. فقد طلب من جنوده مقاتلة السعودية وتركيا، ولم يذكر إيران بحرف! فكما تستخدم إيران حماساً و«الجهاد» في غزة، فأنا أتوقع أن تستخدم «النصرة» و«داعشاً» ضد ناسنا ودولنا في العراق وسوريا ولبنان والجزيرة. وربما في توجيه العمليات الانتحارية والدهس والمعس والطعن في أوروبا. وقد نجد بعد كل عملية قاتلة في إحدى دولنا بين المقبوض عليهم من يقول إنه تلقى تعليمات من تنظيم الدولة في أفغانستان أو باكستان، بدلاً من الرقة، كما يقال حتى الآن! 

وبالأمس حذَّرنا مدير الأمن العام اللبناني، المعروف بعلاقاته بـ«حزب الله» والنظامين السوري والإيراني، من أنّ الإرهاب لن ينتهي بالاستيلاء على الرقة ودير الزور من التنظيم؛ بل لا بد من اتقاء شرّ «الذئاب المنفردة» التي تتحرك في أوروبا، وقد تتحرك عندنا!

وساعٍ إلى السلطان يسعى عليهم 
ومحتَرَسٌ من مثله وهو حارسُ