حسن يحيى 

يقترب عالم التجزئة اليوم من ثورة خامسة قد تقلب هذا القطاع رأساً على عقب، خصوصاً مع دخول التكنولوجيا وعلوم الحاسوب كالذكاء الاصطناعي إلى أدق تفاصيله. ويعتقد الكثير من العلماء أن «البيانات» ستكون ثورة عالم التجزئة المقبلة، إذ ستمكن الشركات التي ستعرف كيفية الاستفادة منها، من تحقيق أرباح خيالية، في حين ستعجز الشركات التي لن تستفيد من البيانات عن المنافسة في هذا العالم.

ويشير جوزف تورو في كتابه «الممرات لديها عيون» إلى أن مؤسسات البيع بالتجزئة لن تستطيع المنافسة خلال السنوات المقبلة إلا عبر التنسيق بين البيانات التي تحوز عليها وبين المنتجات والعروض التي تقدمها. ويعتقد أن على المؤسسات اكتشاف كيفية تعقب المستهلكين وتمييزهم من خلال النمط الاستهلاكي، وتوجيه الخصومات والعروضات الخاصة بكل مستهلك على حدة لإعطائه أفضل تجربة تسوق ممكنة، ما يفرض ولاء المستهلك إلى هذا المتجر بذاته.

وتستطيع الشركات من خلال البيانات تعقب نمط الاستهلاك بالكامل، كما يمكنها تحليل طريقة حياة المستهلك وأنظمة أكله وحتى الأدوية التي يستعملها. ووفقاً لمبدأ مشاركة المعلومات وبيعها، ستتمكن هذه الشركات من بيع هذه المعلومات إلى شركات لا علاقة لها بالتجزئة، ما قد يؤثر في حياة المستهلك العادي. فعلى سبيل المثال، تستطيع شركات التجزئة بيع معلومات عن الطعام الذي يستهلكه أي فرد إلى شركات التأمين، لتعمد الأخيرة إلى تحليلها واكتشاف ما إذا كان هذا الشخص يعتمد نظاماً صحياً أم لا، ما يخفض فاتورة التأمين في الحالة الأولى ويرفعها في الثانية نظراً إلى أن نظام الأكل غير الصحي يزيد إمكانات حدوث أمراض. وهناك الآلاف من الأمثلة التي يمكن للشركات الاستفادة منها من خلال البيانات.

ولعل ما حصل مع عائلة أميركية في 2012، خير دليل على ما سبق. إذ اكتشف والد إحدى الفتيات حمل ابنته بعدما اطلع على بريد إلكتروني يحتوي على خصومات على منتجات مرتبطة بالحمل من إحدى شركات التجزئة التي كانت بدأت بتحليل البيانات، وصل إلى ابنته التي لا تزال في الثانوية.

وبدأت «أمازون» والكثير من الشركات بالفعل بهذه الخطوة، إذ بمجرد امتلاك حساب فيها والقيام بعملية تبضع أولية، سيظهر بعض المنتجات التي قد ترغب بشرائها. في المرات الأولى قد لا تتلاءم هذه المنتجات مع حاجات المستهلك، لكن مع تطور هذه العلاقة ستصبح عملية التوقع أكثر دقة، حتى أن الشركة قد تبدأ بمعرفة المنتجات التي تحتاجها قبل أن يدرك المستهلك نفسه حاجته إليها.

وما من شك أن هذه الثورة لن تكون منفصلة عن الثورات الأربعة الماضية، إذ شهد عالم التجزئة «ثورات» عدة خلال تاريخه الذي يمتد إلى عام 1916 حين قام كلارنس ساندرس بإنشاء أول متجر لبيع التجزئة في الولايات المتحدة يعتمد على مبدأ الخدمة الذاتية، وبناء ممرات لعرض البضائع. وأتت الثورة الثانية عام 1930، عندما وصل مفهوم «السوبر ماركت» إلى الولايات المتحدة أثناء فترة الركود الكبير. واعتمد هذا المبدأ على استئجار المراكز المهجورة الضخمة وتعبئتها بالمنتجات المنخفضة الكلفة. أما الثورة الثالثة فهي دخول «الباركود» وتعميمه على المنتجات كافة، لتأتي «والمارت» و «أمازون» بعدها لتعمم استخدام التكنولوجيا في هذا القطاع.

 

«والمارت» وريادتها في مجال التكنولوجيا

ولا بد في هذا السياق من الاطلاع على تجربة «والمارت» الثورية في عالم التجزئة التي بدأت عام 1962 وأسسها سام والتون وأخوه باد. إذ استطاعت منذ عام 1977 حتى 1986 رفع مبيعاتها السنوية من 678 مليون دولار إلى 12 بليوناً، كما ارتفع صافي الدخل من 22 مليون دولار إلى 450 مليوناً. وسجلت عام 1988 ارتفاعاً في مبيعاتها بنسبة 34 في المئة إلى 15.9 بليون دولار، كما ارتفع صافي الدخل في العام ذاته 39 في المئة إلى 627.6 مليون دولار. واستطاعت في العام ذاته أيضاً، أن تعمل في 24 ولاية أميركية.

هذه الحصص السوقية سجلتها الشركة بفضل تركيز والتون على التكنولوجيا لخدمة الزبائن، وخفض كلفة المنتجات. ففي منتصف ستينات القرن الماضي، بدأت الشركة باستعمال الكومبيوترات لتتبع المبيعات وخدمات التوصيل في كل فروعها. قد تبدو هذه الأمور طبيعية نسبة إلى وقتنا، لكن في ذلك الوقت لم تكن أي من المنتجات تحمل «باركود» ولم تكن أنظمة مسح «الباركودات» مطبقة في شركات التجزئة والسوبرماركات، إذ استعمل هذا النظام، الذي نأخذه اليوم في شكل بديهي، في 26 حزيران (يونيو) 1974 في الساعة الثامنة صباحاً في سوبرماركت «مارش» في ولاية أوهايو وفقاً لأرشيف مجلة «وايرد» الأميركية، مع الإشارة إلى أن نظام مسح «الباركود» سبق وابتكر عام 1948 من قبل برنارد سيلفر.

في عام 1987، لجأت الشركة إلى الكومبيوترات من جديد من خلال إطلاق مركز معلومات متصل بالأقمار الاصطناعية، كان الأضخم من نوعه في العالم، يُمكّن من إيصال المعلومات والبيانات من الفروع كافة في شكل مباشر إلى المركز الرئيس، كما يسمح بالقيام باتصالات هاتفية وفيديو بين هذه الفروع، ما فتح حقبة جديدة في تاريخ «والمارت».

وبعدما وصلت إلى هذا الحجم، تمكنت الشركة من فرض أسعارها على المنتجين، خصوصاً أنها اعتمدت نظام أسعار أقل من الأسعار السائدة في الأسواق. ووصلت نسبة انخفاض أسعارها عن هامش الأسعار في الأسواق إلى 3 في المئة بحلول عام 1990، ما زاد من تفوقها على منافسيها لتصبح من دون منازع أكبر شركات التجزئة من جهة القيمة السوقية في الولايات المتحدة. وفي عام 2016 سجلت الشركة إيرادات بقيمة 485.87 بليون دولار، ودخل صاف بقيمة 13.64 بليون دولار في العام ذاته.

 

«أمازون» وتركيزها على البيانات

في 1994، قرر جيف بيزوس تأسيس شركته بعدما أدرك أن الإنترنت سيكون «سلعة» المستقبل. وحصل على التمويل من مدخرات والديه التي لا تتجاوز بضعة آلاف من الدولارات. في 1995 استطاع الحصول على تمويل بقيمة 8 ملايين دولار من شركة «كلينر بيركينز كوفيلد أند بايرز»، ليذهب إلى الاكتتاب العام بعد عامين ويحصل على مزيد من الأموال.

وبحلول عام 2015، استطاعت أمازون التفوق على «والمارت» لتصبح أكبر شركات التجزئة لجهة القيمة السوقية في الولايات المتحدة، كما أصبحت رابع أكبر الشركات التي ذهبت إلى الاكتتاب العام، قيمة في العالم، وأكثر شركات الإنترنت ربحاً في العالم، وثامن أكبر مُوظف في الولايات المتحدة كلها.

واستطاعت الشركة الوصول إلى هذه المرحلة من خلال التركيز على نقطة رئيسة، إذ جعلت من البيانات والمعلومات الشخصية محور اهتمامها. ففي عام 2011، قررت الشركة تشجيع المستهلكين على تنزيل تطبيقها الخاص الذي يقارن الأسعار. ويحصل المستهلك على خصم بقيمة 5 في المئة على بعض المنتجات التي صورها في حال طلبها من «أمازون».

بهذه الصفقة، استطاعت «أمازون» الحصول على مئات الملايين من البيانات من مختلف المتاجر في الولايات المتحدة حول أسعار المنتجات والطلب عليها، ما يمكنها من تعديل أسعار هذه المنتجات وفقاً للمنطقة الجغرافية الموجودة فيها. كما استطاعت الشركة التي ليس لديها صالة لعرض منتجاتها، تحويل شركات التجزئة العادية إلى صالتها الخاصة بكمية هائلة من الصور والمنتجات التي تم رفعها على التطبيق.

واستعانت الشركة أيضاً بالذكاء الاصطناعي لتحليل ملايين البيانات التي تردها يومياً، خصوصاً أنها أصبحت تستحوذ اليوم على 42 في المئة من سوق التجزئة الإلكترونية في الولايات المتحدة. وسجلت الشركة عام 2016 إيرادات بلغت 135.98 بليون دولار، وصافي دخل يصل إلى 2.371 بليون دولار.

لا شك أن الثورة المستقبلية في عالم التجزئة والعالم، هي ثورة البيانات، ولن يتمكن المستهلك مع الأسف من منع انتهاك حياته الخاصة ومعلوماته ما لم تصدر قوانين تردع هذه الانتهاكات، ولكن على الأقل يجب أن تكون لديه المعرفة الكافية لكيفية تنظيم هذه البيانات والاستفادة منها.