السيد ولد أباه

 في كتابه الصادر هذه الأيام بعنوان «السلطة الجديدة»، يتناول الفيلسوف الفرنسي «رجيس دوبريه» ظاهرة وصول الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون إلى السلطة، معتبراً أنها ليست مجرد تحول ظرفي في المشهد السياسي، بل هي دلالة تبدل عميق في تركيبة المجتمع وثقافته السياسية.

وما يبينه «دوبريه» هو أن المجتمع الفرنسي انتقل من النموذج «الكاثوليكي- اللائكي» الذي ميز تاريخياً تقليد الدولة الفرنسية في سماتها المركزية وإيقاعها التاريخي الممتد ونمط ديمقراطيتها الحزبية إلى نموذج «بروتستانتي جديد» على غرار التجربة الأميركية والأوروبية الشمالية.

وما يعنيه دوبريه بالبروتستانتية الجديدة هو ما كان نبه إليه عالم الاجتماع الألماني الشهير «ماكس فيبر» من الصِّلة بين نشأة الرأسمالية الحديثة والإصلاحات البروتستانتية في تصوراتها العقدية والأخلاقية التي تعلي من شأن العمل والإنتاجية والفاعلية الحركية.

البروتستانتية الجديدة تعني الخروج من أفق التدبير السياسي للشأن العمومي إلى منطق التسيير الاقتصادي، ومن رمزية الفعل السياسي إلى هيمنة الشفافية والتكشف، ومن ثنائية العمومي والخاص إلى انمحاء هذه القسمة التي نجمت عنها عودة الشخصية الفردية إلى المشهد السياسي بدل الأحزاب السياسية المنظمة.

وما يدل عليه حدث «ماكرون» هو تأزم صورة رجل السلطة التي كانت تتمحور حول أربعة وجوه هي: الأب والمعلم والقاضي والزعيم، وهي وجوه لم تعد قادرة على التأثير في السياق الاجتماعي الذي تتحكم فيه قيم الحركة والشفافية والتفاعل الشمولي.

والبروتستانتية الجديدة من هذا المنظور لا تعني الجانب العقدي الديني بل المخزون الثقافي العميق الذي انفصم عملياً عن الخلفيات الدينية واللاهوتية وتحول إلى قاعدة رمزية مكينة للمجتمعات المعولمة.

وليس من محض الصدفة أن يواكب انتشار الكنائس البروتستانتية الجديدة حركيّة العولمة، فالفرق الإنجيلية هي اليوم أكثر الملل الدينية انتشاراً في العالم، خصوصاً في أفريقيا وآسيا، في الوقت الذي تراجعت فيه الكاثوليكية حتى في مركزها الأوروبي.

وفي كتاب دوبريه حديث مستفيض عن علاقة الرئيس الجديد ماكرون بالفيلسوف البروتستانتي «بول ريكور» الذي كان لفترة طويلة مهملاً معزولاً في الساحة الفكرية في بلاده قبل أن يتحول بعد موته (2005) إلى موضة فلسفية عارمة. ومن المعروف أن ماكرون تعرف على ريكور في سنوات عمره الأخيرة وساعده في تنسيق تحرير كتابه المحوري الأخير «التاريخ والذاكرة والنسيان»، ولم ينفك يرجع إليه في خطابه الفكري والسياسي بما هو جلي في حملته الانتخابية الأخيرة.

ويمكن القول بناء على حدس دوبريه أن ما تعلم ماكرون من أستاذه ريكور هو أفكار ثلاث جديدة على المشهد السياسي الفرنسي: التأليف الإشكالي بين المواقف المتضاربة دون بحث عن تجاوز جدلي لمضامينها المتعارضة، وإعادة الاعتبار لليوتوبيا من حيث هي أفق للإمكانات المفتوحة لا مجرد خيال عقيم، وفكرة الهوية السردية، أي أهمية الذاكرة والرواية والاستعارة الحية في بناء المشروع السياسي والاجتماعي للأفراد والجماعات.

وقد انتصر ماكرون على ممثل الحقل السياسي الفرنسي الكلاسيكي والوجه الكاثوليكي البارز «فرانسوا فيون» الذي ظهر بمظهر حارس التراث والتقليد، كما انتصر أيضاً على ممثلة اليمين المتطرف «مارين لوبن» التي لم تدرك الفرق الجوهري بين الهوية الثقافية الجامدة والهوية الحركية الحية، وهزم مرشح اليسار الراديكالي «ميلانشون» الذي لا يزال حاملاً لمشروع الثورة التاريخانية التي هي الأثر الباقي من الكاثوليكية في منعرجها الماركسي.

والنتيجة الكبرى لظاهرة ماكرون هي ما عبر عنه دوبريه في كتاب آخر بمقولة «مسار أمركة العالم»، أي تحول الثقافة الأميركية القائمة على الحركة والانتشار والفردية إلى نموذج حضاري وحيد يقضي على الخيار الحداثي الأوروبي الذي مثلته تاريخياً الثورة الفرنسية، وهو ما يعني انتصار «البدعة البروتستانتية» التي كانت مجرد حركة انشقاقية داخل المسيحية على الطائفة التي كرست تاريخياً التقليد المسيحي، أي الكاثوليكية.

والمشكل في البروتستانتية الجديدة هي أنها تدخلنا في عصر «ما بعد السياسة» الذي هو في الوقت نفسه عصر ما بعد الدولة وما بعد الكتابة، إنها توهمنا بالقدرة على تعويض صلابة الاعتقاد بالإحساس وثقل التاريخ والتقليد بالحركة والانتشار والحكم السياسي بالحكامة الاقتصادية.

كان الأديب الفرنسي المعروف بول فاليري يقول في بدايات القرن العشرين إن الموجة الجديدة من التقنيات الحديثة بقدر ما سترفع عن الجسم الإنساني أعباء كثيرة ستقلص في الآن نفسه إمكاناته الفكرية بتعويض الخيال بالصورة والبراهين بالرموز والكتابة بالآلة، وما نضيفه مع دوبريه هو الخروج من أفق السياسة والتاريخ الذي له آثاره الحتمية على طبيعة وضع الإنسان الوجودي.