طارق أبو العينين 

كل عدالة مصدرها الله، ولو كنا نستطيع أن نستقدمها من السماء مباشرة لما كانت بنا حاجة إلى حكومة أو قانون. هكذا قال فيلسوف التنوير الأشهر جان جاك روسو. وتلك المقولة تعني أن الإيمان بعدالة المنطق الإلهي لا تتنافى مع فكر الاستنارة.

كما أن تهميش المنطق الإلهي في الحكم على الأمور لا يعني بالضرورة احتكامنا إلى منطق وقانون عادلين. تلك مسألة مهمة تنبغي الإشارة إليها عندما نتحدث عما جرى أخيراً في تونس بعد دعوة الرئيس السبسي إلى تعديل قوانين المواريث بما يسمح بمساواة المرأة بالرجل، مع السماح كذلك للمرأة المسلمة بالزواج من كتابي؛ لأن هذا لا يغفل فقط دور الدين الطبيعي في تنظيم حياة الناس ومعاملاتهم، إذ إنه يحمل في طياته انقلاباً على المنطق العقلاني المستنير الذي يتعاطى مع منجز التنوير الأوروبي المتعلق بالحداثة وعلمنة النظام السياسي كمنجز بشري نسبي لا يمكن أن يرقى إلى مرتبة التقديس، ويدرك في الوقت ذاته أنه خضع في عالمنا العربي لقراءة أيديولوجية، ومن ثم اختُزل وتحول أداة لإدارة الصراعات السياسية بما جرَّد خطاب التنوير العربي من قيمه ومضامينه الحقيقية. لذلك يمكن القول باطمئنان إن موقف القيادة التونسية برمته يرتطم بحقائق عدة معرفية وسياسية أساسية تدشنت مع بزوغ حركة الاستنارة وتكللت بثورة الفرنسيين على الاستبداد في القرن الثامن عشر.

الحقيقة الأولى أن التنوير كما عرَّفه إيمانويل كانط هو شجاعة استخدام الإنسان عقله من دون وصاية من الآخرين. فتحرير الإنسان من كل سلطة ووصاية يعد مضموناً أساسياً من مضامين التنوير. لذلك، فإن تعريف كانط تُكمله مقولة فيلسوف التنوير الفرنسي فولتير: «كن رجلاً ولا تتبع خطواتي»؛ بما يعكس هذا المضمون ويؤكده ليكون الهدف الأساسي للتنوير هو تحقيق القوامية الذاتية لكل إنسان من خلال تمكينه من حقه في التفكير والاختيار وتقرير مصيره بنفسه من دون وصاية من أحد. ومن ثم، فإن من العبث فرض خيارات بعينها تخص المعاملات والحقوق الشخصية على عموم الناس باستخدام سلطة القانون من دون استفتائهم وأخذ رأيهم بالطريق الديموقراطي، أو حتى إخضاع الأمر للجدل المجتمعي كحد أدنى من توسيع دائرة المشورة احتراماً لحق الناس في الاختيار الحر. أما الحقيقة الثانية، فهي محدودية قدرات العقل في تجاوز سياقه البشري الواقعي (الفيزيقي) إلى السياق (الميتافيزيقي) المتعلق بالخلود والألوهية. فتلك الأطروحة التي نظر إليها كانط، حصرت إمكانات العقل البشري في التعاطي مع ما هو واقعي وملموس. وهنا يمكن أن يثور سؤال مهم وهو: ألا يقع تنظيم الناس معاملاتهم مثل المواريث والزواج في الإطار البشري الفيزيقي ومن ثم يكون لهم الحق في تنظيمه كما يريدون بمعزل عن النص المقدس؟ ولعل فرادة النص القرآني الذي دمج ما هو فيزيقي وواقعي بما هو مياتفيزيقي وإلهي وأخروي تعد بمثابة إجابة قاطعة على هذا السؤال المهم؟ فالإيمان بالغيبيات والحقائق الوجودية الأساسية في العقيدة الإسلامية، كالله وملائكته، يُكمله الإيمان بحقائق وجودية أخرى مثل كتب الله ورسله. ومن ثم، فإن العقيدة الإسلامية تنطوي على ميتافيزيقا مركبة لها مستويان. المستوى الأول على صعيد إحالتها المرجعية بمعنى أن النص القرآني مجاوز للعقل البشري بوصفه منتجاً إلهياً سماوياً صرفاً. أما المستوى الثاني، فهو في كون النص ذاته يحمل حقائق تتبعها تكليفات للمؤمنين تنظم واقعهم المُعيش لا يمكن أن يطاولها شكٌ، ومن ثم تتطلب الامتثال والتسليم التام إزاءها استعداداً للحساب الأخروي. وبذلك يكون المستوى الثاني المتعلق بتحقيق المؤمنين الأوامر الإلهية على صعيد واقعهم الفيزيقي البشري المادي موصولاً بالمستوى الأول الإلهي السماوي الميتافيزيقي الصرف المتعلق بقضايا الخلود، كالآخرة والصراط والحساب. ومن ثم، فإن تحريف الأوامر الإلهية وتعديلها وتعطيلها هو تجاوز لتلك الحقيقة التنويرية الأساسية المتعلقة بمحدودية قدرات العقل البشري في تجاوز سياقه الفيزيقي الواقعي إلى السياق الميتافيزيقي الإلهي الأخروي.

أما الحقيقة الثالثة، فهي أن الدولة في فلسفة التنوير ليست مجرد كيان اعتباري منفصل عن مشاعر أبنائه وآمالهم، فالدولة وفق تعريف فيلسوف الاستنارة السياسية روسو هي جسد سياسي تتشكل إرادته بموجب إرادات أفراده، وإذا كانت إرادة الناس حرة ومستقلة، فإن القرار بفصل ما هو ديني عن ما هو تشريعي ودولتي، هو قرار يجب أن يعتمل أولاً وفي شكل فردي في عقل كل إنسان ووجدانه. ومن ثم لا ينبغي للدولة أن تتدخل لإعادة تشكيل مشاعر الناس وآمالهم؛ لأنها في النهاية وبمنطق التنوير هي مجرد انعكاس لتلك الآمال والمشاعر.

أما الحقيقة الرابعة والأخيرة، فهي أن دولة الحداثة والتنوير كانت تكليلاً لمنجز ثوري ضخم وهو الثورة الفرنسية التي أزاحت أشكال الاستبداد كافة، وهو ما يناقض بكل تأكيد التداعيات المترتبة على قرارات السبسي الأخيرة؛ لأنها سلطوية يمكن أن تُوظف من جانب قوى الثورة المضادة التي تريد عباءة أيديولوجية تلتحف بها وتتحرك من خلالها تحت مسمى إصلاح الخطاب الديني لمواجهة المطلب الأساسي لثورات الربيع العربي المتمثل في القضاء على الاستبداد وإقامة نظم حكم ديموقراطية.

ومن ثم يمكن القول إننا أمام نمط هش من أنماط التنوير السلطوي لأنه تجاوز معرفياً غالبية الحقائق التي يمكن أن يتأسس عليها أي خطاب تنويري حقيقي. كما أنه سيرتطم سياسياً برغبة الثورة المضادة في الانفراد بالمشهد السياسي العربي الراهن.