وديع عبد النور 

عندما أطلت «الجدة» ري تشون عبر الشاشة الصغيرة صبيحة 3 أيلول (سبتمبر) الجاري، وأذاعت خبر نجاح تجربة إطلاق القنبلة الهيدروجينية، عمّ «الفرح» العاصمة الكورية الشمالية بيونغيانغ مصحوباً بزهو وحماسة بالغين، وإن كان التعبير عن هذه المشاعر لا يبدو جلياً لكثيرين.

ومن لا يتقن اللغة الكورية يجد صعوبة في التواصل هناك، وسط «الأجواء المغلقة» في دولة «مارقة»، وقد يكون ظنّ للوهلة الأولى أن مظاهر الاحتفالات «المتصاعدة» تصب في اطار التحضير للعيد الوطني يوم 9 أيلول. لكن سرعان ما تبددت الشكوك واتضحت الأسباب، فبدت من ضمن «أجواء العيد» وإحدى «هداياه».

«الجدة» تشون التي ظهرت باللباس التقليدي عبر شاشة تلفزيون «كيه سي تي في» الرسمي «متخصصة» في إذاعة الأنباء المهمة، وتضفي عليها طقساً مهيباً بنبرتها، عاكسة السطوة الممنوحة للزعيم «المحبوب» كيم جون أون الذي أعلن أن استكمال القوة النووية «يتماشى مع مساعينا إلى التنمية الاقتصادية. ويشكّل انتصاراً بحد ذاته لشعبنا الذي ضحى وتقشّف».

في السابق أعلنت تشون رسمياً وفاة «المؤسس» كيم ايل سونغ ثم نجله كيم جونغ ايل، غير أن نبرتها صبيحة الأحد بدت مجلجلة وخارقة بمخارج الحروف العميقة المنسجمة مع «منظومة التحدي والتهديد... والكرامة»، وكل ذك نابع من عقيدة «جوتشي» أي الاعتماد على الذات (القدرة الذاتية). وهي خليط من الماركسية والوطنية المتطرّفة التي نادى بها كيم ايل سونغ.

ويدفع الفضول إلى الاستعلام عن أحوال الكوريين الشماليين «على الطبيعة» ومعاناتهم بعد سنوات من المجاعة والحصار الذي أدى الى انهيارات اقتصادية وتنموية على اكثر من صعيد، وفرض تقنيناً وتقتيراً حادين على أمور وحاجات كثيرة، لكن الصورة الظاهرة لا توفر استنتاجات واضحة. ويبدو ان كل شيء في هذا البلد مرتبط بحياة القائد وتفاصيله، فصورة الجد والأب «ايقونة محببة» يفاخرون بحملها على صدورهم، «صورة» لا تباع للذكرى على غرار التعاويذ والشعارات الأخرى التي يقبل سياح على شرائها، لأن المواطنين يستحقونها فقط.

إنه بلد يعيش على وقع الاستنفار، النشيد الوطني والموسيقى الحماسية العسكرية تصدح مرات يومياً بمواقيت محددة منذ الصباح الباكر، إنه «النفير الأحمر» الداعي إلى العمل، وطقوسه «الميكانيكية» الصارمة حتى عند شرطيات السير اللواتي يتحرّكن بدقة ومضة ضوء الإشارة، لدى شعب يكدّ ويسير طويلاً، لأن وسائل النقل الخاصة أكثر من رفاه، أما الانعكاسات فإيجابية من باب «رب ضارة نافعة»، لأنها مكافحة طبيعية للسمنة التي لا تبدو ظاهرة الا على الزعيم كيم جون اون.

يصوّر كوريون شماليون للعالم، خصوصاً لسياح يتوافدون مجموعات أو فرادى، أنهم ينعمون بحياة هانئة، طالما الأمور الأساسية والخدمات في «المتناول» وتساهم في العمل لمصلحة المجموعة، وبالتالي لا معنى لأن توفر المحارم الورقية اينما كان وتستهلك كيفما كان.

تزخر بيونغيانغ بالصروح والساحات والتماثيل الشاهقة والحدائق والمتنزهات، تصاميم تضاهي أي مدينة كبرى في العالم، لكن الحقبة السوفياتية بادية بوضوح في المباني السكنية وتخطيط الأحياء، فتشعر بأن الزمن هناك توقف قبل ثلاثة عقود، علماً أن مناطق كثيرة من العاصمة باتت مواقع إستراتيجية لأبراج شاهقة ومبان زجاجية زاخرة بالفن الهندسي، مع الحرص على إنارتها بطريقة مختلفة عما هو مألوف في الشوارع العامة والممرات وداخل الشقق. فالبلاد تعيش أزمة طاقة، حتى أن عاملات تنظيف الغرف في الفنادق يحرصن على اطفاء المصابيح اذا نسي النزلاء أن يفعلوا ذلك. ولعّل في أجواء الأضواء الخافتة دعوة إلى الخلود للنوم باكراً.

ومن يرغب في تسجيل لحظات زيارته عبر صور للذكرى، يجدر به الانتباه والحذر لما يمكن تصويره وطريقة ذلك، فلا مجال لتصوير عمال وعاملات في ورش أو مبانٍ تظهر الكتابة عليها مجتزأة، كما أن مواقع عدة محظورة على ارتياد «الغرباء»، ومنها حالياً ضريح كيم ايل سونغ، او الفندق المهجور (غير المكتمل) بطوابقه الـ 105 المصمم على شكل صاروخ والذي يعد احد أعلى مباني العاصمة، ويبلغ ارتفاعه 330 متراً.

والشراء بالدولار واليورو متاح لأي كان من الزوار، فالتعامل سهل، لأنه يؤّمن عملات صعبة، وغالباً ما تكون بقية المبلغ المردود باليوان الصيني، علماً أن المدينة تبدو خالية من المصارف فواجهاتها كما يبدو لا تطل على الشوارع.

ولا بدّ لزائر كوريا الشمالية أن يتحضّر نفسياً للتخلي عن خدمة «الواتساب» طوال فترة إقامته في ربوعها، وهي «متعة» التخلّص موقتاً من عقوبة «التكنولوجيا اللصيقة».

شارف أسبوع إقامتك في بيونغيانغ على الانتهاء، استقبلك تفجير قنبلة هيدروجينية، وتودعك أفواج من المواطنات بلباسهن التقليدي الزاهي يتحلقن في الشوارع وعلى النواصي احتفاء بالعيد الوطني، وفرق موسيقية وكشفية تتحضر في الساحات العامة لاستعراضات واحتفالات والاستماع إلى خطاب الزعيم «المحبوب»، وموجة اسهم نارية أطلقت تقديراً للمساهمين في إنجاح مشروع القنبلة، أضاءت سماء المدينة ومبانيها وكأنها بديل لتقنين التيار الكهربائي.