محمد الساعد

كان المصريون يطلقون على أم كلثوم لقب «الست» تحببا، وجيهان السادات «السيدة» احتراما، ولا شك أن «الست» كانت الأقرب لقلوبهم ووجدانهم، وهي مشاعر تدفقت من مصر لكل العالم العربي، إنها كوكب الشرق «موحّدة العرب» و«مسعدة الملايين» كما وصفها ذات مرة في رسالة نادرة الأمير الشاعر عبدالله الفيصل.

فبخط دقيق غاية في الجمال والأناقة - كصاحبه -، يكتب الشاعر عبدالله الفيصل رسالة تفيض أدبا واحتراما لنجمة الغناء العربي، السيدة أم كلثوم، تكشف عن تقدير أهل الحكم لأهل الفن والثقافة، يبدؤها الأمير بعبارة: «ست الكل أم كلثوم».

لعلنا هنا لا نجتزئ الرسالة بعيدا عن مناخ عصر النهضة الذي ساد العالم العربي منذ منتصف القرن الثامن عشر وحتى نهاية السبعينات الميلادية، إنها الفترة التي خرج فيها عمالقة الشعر والفن والغناء والمسرح والرواية العربية، فيها نبغ جورج أبيض ونجيب الريحاني وسيد درويش واسمهان وفريد الأطرش، والعقاد ونجيب محفوظ ومصطفى وعلي أمين، وهو نبوغ لم يقف عند حدود النيل بل سبغ معظم العالم العربي، في السعودية والعراق والشام ووصولا إلى المغرب.

الرسالة حملت مشاعر عفوية بين أمير ابن ملك وحفيد ملك وأيقونة عربية، هي في حد ذاتها من أدب الرسائل الرفيع الذي فقده الأدب العربي، يخاطبها «الأمير» المكلّل بتاج العائلة الملكية تارةً والشاعر الممتلئ قصائد وأحاسيس تارة أخرى، فتختلط الكلمات من المخاطب للمخاطبة، وتتراص وتتقدم المعاني، لكي يضعها «الأمير» في منزلتها التي تستحقها.

أليست هي «أم كلثوم»، مالئة الدنيا وشاغلة الناس ومهوى أفئدتهم وأسرارهم، ألم يكن العرب يتحلقون بالملايين أول كل خميس من كل شهر، ليذوبوا مع صوتها القادم من إذاعة صوت العرب في القاهرة.

أم كلثوم في حد ذاتها مشروع نهضوي كامل وأمة لوحدها، وعندما تغني أو تختار قصيدة أو لحنا كانت تستمع بقلبها، وتنظر بعينين عربيتين أصلهما في النيل وفرعهما يمتدان من المنامة شرقا حتى مراكش غربا.

اختارت من لبنان «هذه ليلتي» للشاعر جورج جرداق، ومن مصر أغنيتها الخالدة «الأطلال» لإبراهيم ناجي، ومن السعودية تغنت بقصيدتي «ثورة الشك، و«من أجل عينيك عشقت الهوى» للأمير الشاعر عبدالله الفيصل الذي كتب القصائد الباذخة لها ولغيرها من كبار الفنانين والفنانات، كنجاة، عزيزة جلال، عبادي الجوهر، عبد الحليم حافظ، فايزة أحمد، طلال مداح ومحمد عبده.

رجوعا للرسالة الأميرية، التي جاءت ردا على رسالة بعثت بها أم كلثوم للأمير، كشفت فيها عن مرضها، ليجيبها الشاعر عبدالله الفيصل معبرا عن قلقه على صحتها ومزاجها المتعكر الذي ألم بها، كما يكشف أنه هو أيضا متعب المزاج وأن خبر مرضها زاد ما به، الأمير استجاب في رسالته أيضا لطلب أم كلثوم بتسجيل حقوق قصيدة له يبدو أنها كانت تريد غناءها ويعدها أنه سيسجلها في المحكمة ويرسلها لها فورا.

الرسالة المختصرة لا تكشف عن تلك القصيدة، وهل لحنت وغنيت فيما بعد أم لا، إلا أن الأمير يؤكد أنه يقبل ما تختاره منها بذائقتها الرفيعة، وينهي الأمير رسالته بالتأكيد على المكانة الرفيعة التي يكنها لأم كلثوم.

نص الرسالة كما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم

ست الكل أم كلثوم..

تحياتي وأشواقي أبعثها لك، مع تمنياتي لك بالصحة وطول العمر والسعادة.

تلقيت بيد الشكر رسالتك الكريمة، وكان فضلاً منك أن تكتبي لي، وأنت منحرفة المزاج، ولكنك صاحبة الفضل دائما، وقد عودتينا عليه، أنا بخير إن شاء الله، وكل شيء طيب، ما عدا حالتي النفسية، وقد زادت بعد سماعي الخبر السيئ عن انحراف صحتك.

أما الأغنية فأنا قد كلفت «جمال» أنك الوصية عليها، حياً أو ميتاً، وسيصلك صك شرعي من المحكمة، وأنت تعلمين أنني ليس لي ملاحظة على ما تختارين، فهل هناك ذواقة للشعر مثلك، أرجو أن أسمع في القريب ما يثلج صدري عن صحتك، ودومي لنا يا مسعدة الملايين وأسية الجراح.

المخلص عبدالله الفيصل

25/1/1393هـ