عبدالوهاب بدرخان

إنهاء الحرب في سورية ليس هدفاً تتعامل معه الدول بجدّية من يتطلّع إلى سلام واستقرار، وإنما وسيلة تتهافت بها الدول إلى توكيد مصالحها، سواء ما تحصّل منها بالحرب وخلالها كما يفعل «أمراء الحرب» الروسي والإيراني فضلاً عن الأسدي، أو ما تأمل الصين وتركيا والدول الأوروبية بتحصيله بإعادة الإعمار. لذلك، صار «إنهاء الحرب» كلمة السرّ (والعلن) التي يردّدها الجميع: فلاديمير بوتين ووزيره سيرغي لافروف في جولاته الخليجية كما مبعوث «الأمم المتحدة الروسية» (!) ستيفان دي ميستورا، أو بوريس جونسون الذي يُفسّر الموقف البريطاني الجديد من «رحيل بشار الأسد» بأنه مجرّد تغيير طفيف من «قبل» إلى «بعد» عملية الانتقال السياسي. أو هناك أيضاً إيمانويل ماكرون في خطابه «الاستراتيجي» الذي انتهى فيه إلى أن فرنسا والمجتمع الدولي ليسا (أو لم يعودا) معنيّين بمحاسبة الأسد ونظامه على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وأن ذلك يُترك لـ «دولة القانون» التي ستنشأ «يوماً ما» في سورية. ومع أن ريكس تيلرسون سبق أن جزم بأن «لا مستقبل لنظام الأسد وعائلته» في حكم سورية، إلا أن واشنطن معروفة بالانقلاب على مواقفها وفق الظروف والمصالح.

بين أولوية «رحيل الأسد» وضرورة «بقاء الأسد»، تتفنّن العواصم في تبرير خذلانها الشعب السوري، ما يؤكّد أن إنصافه لم يكن أولويةً عندها أو حتى ضرورة. حسناً، إلى إنهاء الحرب إذاً، لكن كيف؟ بأن يتولى ذلك المبعوث الأممي - الروسي البائس، بعد التشاور مع موسكو وطهران، إبلاغ السوريين في مناطق «خفض التصعيد» ومخيمات النزوح وبلدان اللجوء بأنهم «لم ينتصروا» في حرب لم يسعوا إليها أصلاً. لم يكن مضطرّاً لهذه الوقاحة اللاإنسانية واللاأخلاقية وغير المتّسقة مع «مبادئ» الأمم المتحدة. لماذا؟ لأن السوريين يعرفون أنهم خسروا الحرب التي فرضها عليهم النظام وحلفاؤه، بل لا يزال حليفه الإيراني يعمل لإطالتها طالما أنه يشعر بأن مصالحه لم تتحقق بعد أو أنها تتقلّص شيئاً فشيئاً. ولعل الأسوأ في تصريحات دي ميستورا أنها لا تدعو عملياً إلى حل يشجّع على السلم والتعايش بين أبناء بلد واحد، بل تروّج لحل يلبّي مصلحة مجرمي الحرب ولا ملمح فيه للعدل.

لكن، حتى روسيا، الجلفة والمتوحّشة، مقتنعة بأن إنهاء الحرب لا ينحصر في جانبها القتالي الذي تعالجه بتفوّقها الناري لتخيير المقاتلين والمدنيين بين الإبادة ووقف إطلاق النار، بل لا بدّ من اتفاق سياسي لتثبيت الهدنات والانتقال إلى مرحلة مختلفة في الأزمة. كما أن الاعتماد على الفصائل كـ «بديل» محتمل من مفاوضي المعارضة، وحتى التعويل على «الدول الداعمة» للضغط على المعارضة وتطويعها، ليسا مُجديين، فلا الفصائل ولا «الهيئة العليا للمفاوضات» ولا الدول يمكن أن تضمن نجاح حل سياسي قائم على «بقاء الأسد» شروطه وعلى ضرورة وجود مندوب لموسكو (قدري جميل) في وفد المعارضة. أي «بديل» ينخرط في تفاوض شكليّ ويبصم على الحل السياسي الروسي سيصبح مرذولاً، مثله مثل النظام. وهذا «الحل»، إذا قدّر له أن يحصل، سيؤسّس لمرحلة تأزّم تالية تكشف الهشاشة الفعلية للنظام، في البيئتَين الموالية والمناوئة، وسيكون على روسيا كـ «دولة احتلال» أو «سلطة وصاية» أن تدير وضعاً لا تفيد القوّة العسكرية في حلحلة تعقيداته.

لا يميّز الأسد وحلفاؤه الإيرانيون بين الانتصارات على تنظيم «داعش» والانتصارات على فصائل المعارض، فكلّها عندهم هزائم للإرهاب. ولم يخالفهم الخطاب الروسي في تسويق هذا المفهوم وأخطائه، فالمهم عند موسكو أن شعار «إمّا الأسد وإمّا داعش» نجح إلى حدٍّ كبير في تغيير اقتناعات دول كثيرة معنية بالأزمة، كما ساعدها في تمرير جرائم الحرب التي ارتكبتها الطائرات الروسية على مرأًى من العالم، وكذلك في «شرعنة» جرائم استخدام النظام السلاح الكيماوي بعلمها وموافقتها.

لكن نظرةً إلى «الانتصارات» الأسدية والإيرانية الأخيرة على «داعش»، خصوصاً الى خواتيمها، لا تنفكّ تطرح التساؤلات وتكشف المستور من تداخلات وعلاقات بين التنظيم الإرهابي ونظام الأسد، وبينه وبين الإيرانيين وأتباعهم، وكذلك بين بعض الحكومات وبعض «الدواعش». تساؤلاتٌ بدأت في القلمون الغربي في سورية مع «صفقة حزب الله – داعش» وأهدافها بمعزل عن «الاعتبارات الإنسانية» الهابطة فجأةً على «حزب الله» ولم يكن لها أثر في قتل وتجويع عشرات آلاف السوريين قبل اقتلاعهم من مدنهم وبلداتهم، وتواصلت مع إشارة نوري المالكي (ولو من قبيل المماحكة السياسية) إلى «تحرير» تلعفر بلا معركة بل بـ «صفقة» يعرف جيداً أنها تمّت بين إيران وتركيا وليس بين حكومة حيدر العبادي و «داعش»، ولم تنتهِ التساؤلات بعد اختراق الحصار على قاعدة «اللواء 137» في دير الزور، إذ إن الذين استحثّهم النظام إلى المكان بعد ساعات من «النصر» فوجئوا بأن لا أثر لمعركة حصلت فعلاً، فلا جثث لقتلى ولا آثار لقصف وتدمير، ورجّحوا في شهادات خاصة أن يكون «داعش» انسحب من دون قتال.

ما سهّل تلك «الانتصارات» أن روسيا وإيران، فضلاً عن تركيا وغيرها من الدول المعنيّة، تعتبران أن الصراع الداخلي (النظام - المعارضة) قد حسم، بالتالي فَقَد «داعش» مبرّر وجوده كعنصر مساعد في ذلك الحسم أولاً باختراق مناطق المعارضة ثم بتشويه قضيّتها، في سورية كما في العراق. وأصبح الآن أكثر وضوحاً أن تظهير التنظيم وتركه ينتشر ويتمدّد ويعلن «دولته» و «خلافته» كانت «المكافأة» التي أجمعت عليها الأطراف اللاعبة، بتناغم استخباري في ما بينها ولو من دون تنسيق عسكري. وكما كانت الأدلة واضحة على أن «المهمّة العراقية - السورية» المولجة للتنظيم اكتملت بانتشاره وإعلانه «الدولة» وبدء التحضير للحرب عليه، فإن الأدلة على انتهاء «المهمّة الدولية» للتنظيم تشير إلى سلسلة عمليات برية وجوية في مواقع مختلفة لتسلّم مقاتلين من «داعش» اتصلوا عارضين «الاستسلام». لم يكونوا مقاتلين ولا مستسلمين بل مخبرين متعدّدي الجنسية تولّوا طوال الأعوام الثلاثة الماضية نقل المعلومات إلى أجهزتهم عن أوضاع التنظيم وإدارته مناطقَ سيطرته. هناك شهود رأوا مروحيات أميركية تجلي نحو عشرين أجنبياً من أحد أطراف الرقّة مطلع حزيران (يونيو) الماضي، فيما أكّد مصدر عسكري روسي واقعة إجلاء أميركي لـ22 من «القادة المتنفّذين» للتنظيم، لكن كل الدول الأخرى بلا استثناء دسّت مخبريها في قوافل «المجنّدين الأجانب» منذ اتضحت طبيعة «داعش» ومهمّاته.

لكن مَن أنتج «داعش» وابتكره، فلا شك أن التساؤل سيبقى قائماً، لأن التنظيم شهد تحوّلات كانت في بعضٍ منها ذاتية الدوافع، كأنه أُوهم بأنه معتمدٌ لـ «الخلافة»، إلا أن مؤشرات عودته إلى الواقع وإلى مصدره تنظيم «القاعدة»، أي إلى إيران، راحت تتزايد مع اقتراب هزيمته الكبرى - وليس النهائية، إذ إن استراتيجية إيران باتت تركّز على سيناريو يشبه ذلك الذي اتّبع في دفع أنصار حركة «طالبان» إلى الانكفاء بعد هزيمتهم أمام الأميركيين في 2001، فالبديل الإيراني من القضاء على «داعش» يقوم على دفع مقاتلي التنظيم إلى سلسلة جبال حمرين في العراق وإلى أودية الفرات الواصلة حدودياً بين العراق وسورية. فهناك يمكن إيواء نواته الصلبة ليدين لإيران بمنع زواله، أسوة بـ «القاعدة»، ما يمكن إعادة برمجته وتدويره لاستخدامه في العمليات القذرة التي يُراد النأي بـ «الحشد الشعبي» عنها.

إذا كان الهدف من «إنهاء الحرب» البناء على «إنجازاتٍ» كهذه لـ «داعش» وعرّابه الرئيسي، فضلاً عن عرّابيه الكثر، فالأصحّ أن يُجلب «داعش» إلى التفاوض مع نظام الأسد الذي ساهم في تصنيعه ثم شارك حلفاءه في محاربته والانتصار عليه، وطالما أنه هُزم فالأحرى أن يرضخ لشروط المنتصرين ويكتفي ببقاء من بقي من فلوله. أما شعب سورية فلم يكن معنيّاً بهذا التنظيم الإرهابي، لا في بداية انتفاضته ولا الآن، وإنما بالخلاص من النظام وإرهابه. لذلك، فإن أي «حل سياسي» يبقي على أحد هذَين الإرهابَين سيعني إدامة وتأجيجاً للصراع الداخلي.