نديم قطيش

تأجيل الاحتفال الوطني بانتصار الجيش اللبناني في معركة الجرود والذي كان مقرراً أمس الخميس في ساحة الشهداء وسط العاصمة اللبنانية بيروت، هو تأجيل بطعم الإلغاء، وإهانة صافية للمؤسسة العسكرية وتضحياتها، وإهانة لدماء شهدائها وآلام جرحاها وعوائل الشهداء والجرحى وعموم اللبنانيين.

أما في السياسة، فالتأجيل (الإلغاء)، هو فصل جديد من فصول التجاذب المتنامي بين ميليشيا حزب الله والجيش الوطني.
في خطاباته كلها التي رافقت المعركة في الجرود الشرقية للبنان أكان تلك التي خاضتها ميليشيا حزب الله في جرود عرسال أو ما تلاها من معارك خاضها الجيش اللبناني في جرود بعلبك والقاع، ثابر حسن نصر الله على التذكير بمعادلة الشراكة الشاذة بين «الجيش والشعب والمقاومة»! ونسب، بإصرار لافت، كل الانتصارات لهذه المعادلة، التي من دونها لا نصر ولا من يحزنون.

بها ختم خطاب الانتصار الذي أحيته الميليشيا في بعلبك، بقوله «انتهى الزمن الذي يُعتدى على وطننا ويُستضعف فيه هذا الوطن ويُحتقر فيه هذا الشعب. هذا الزمن انتهى بفضل المعادلة الذهبية الجيش والشعب والمقاومة».

إصراره هذا يعكس ضعف الحاضنة الوطنية والسياسية للمعادلة الثلاثية، وهو ضعف ازداد في ضوء تلمس اللبنانيين لتطور قدرات جيشهم الوطني، وهو ما عبر عنه التفاعل العفوي مع الجيش في كل البلدات والمدن التي مر بها في طريق العودة من ساحة الحرب. صور الفتيات على الآليات العسكرية، وصور الأهالي العفوية مع الجنود والضباط، في عموم البيئات اللبنانية كانت إشارة تعطش كامنة للدولة ولهيبتها، فيما بقي حزب الله في ظلال المشهد، يحتفل بشكل مركزي «بانتصاره» و«شهدائه» من دون أي حاضنة تتجاوز بيئته اللصيقة أو تتعدى جمهوره الحزبي!

في مقابل إصرار حزب الله على تكرار معزوفة المعادلة الثلاثية، التي لم يكن لها مكان في ميدان المعركة لا سيما في فصلها الأخير، والمؤسس، أي في معركة جرود بعلبك والقاع، غابت هذه المعادلة عن خطاب الدولة تماماً. في خطاب النصر الرسمي قال رئيس الجمهورية ميشال عون «أعلن انتصار لبنان على الإرهاب وأهدي هذا النصر إلى جميع اللبنانيين الذين من حقهم أن يفاخروا بجيشهم وقواهم الأمنية» من دون أي ذكر للمقاومة، في حين أكد قائد الجيش في خطاب تكريم الشهداء المستعادة جثامينهم من يد «داعش»، في حفل مهيب في وزارة الدفاع، «أن وحدة أراضي لبنان يصونها الجيش وشهداؤه». والأهم، قوله «إن رد الجيش مستقبلاً سيكون هو نفسه على كل من يحاول العبث بالأمن والتطاول على السيادة الوطنية أو التعرض للسلم الأهلي وإرادة العيش المشترك».

لم يسبق في خطاب الدولة اللبنانية أن برزت مثل هذه النبرة الاستقلالية، أكان فيما يتعلق بمواجهة المخاطر الخارجية، أو حيال التطاول على السلم الأهلي، كما حصل حين استعمل حزب الله سلاحه في الداخل في السابع من مايو (أيار) 2008.

التعارض الساطع بين خطاب حزب الله وإصراره على معادلة تنتمي إلى زمن مضى، وبين خطاب الدولة والجيش الذي يعلن بداية حقبة جديدة منذ العام 1990، كان سيبدو أكثر وضوحاً لو قيض للاحتفال الشعبي في ساحة الشهداء أن يتم. اللافت أن رئيس الجمهورية ومقربين منه كانوا أعلنوا عن احتفالات شعبية ولمحوا إلى جنازة شعبية لشهداء الجيش، قبل أن تتسرب أنباء عن اعتراض ميليشيا حزب الله على هذه المشهدية، فكان الاحتفال الرسمي في وزارة الدفاع. تلا ذلك تحضيرات سياسية وعملية لاحتفال شعبي، يلي الجنازة الشعبية، ثم ما لبث أن سحب الموضوع من التداول وفككت المنصات والمجسمات التي شُرع في بنائها في المكان المفترض للاحتفال، تحت عنوان التأجيل لأسباب لوجيستية، لا يبدو أنها أقنعت أحداً.

الأهم أن حزب الله الذي حشد في احتفال بعلبك، روج لاحتفاله ذاك بأنه استفتاء على المقاومة، فجاء احتفاله عاديا لم يفارق على أي نحو، ما درج الحزب على تنظيمه في مناسبات سابقة أقل أهمية بكثير! أما احتفال ساحة الشهداء، لو تم، فكان سيكون استفتاءً جدياً على ميل الناس إلى الدولة والجيش وتطلعهم للسلطة الواحدة التي لا شريك لها!

بعد أحداث مايو 2008 المشؤومة قال النائب في حزب الله نواف الموسوي، ما أظن أنه لا يزال التفكير العميق لحزب الله بعيداً عن كذبة الشراكة مع الجيش:

«لن يكون هناك على رأس أي جهاز أمني في لبنان أو أي موقع عسكري من لا تطمئن المقاومة إلى صدق ولائه للوطن وهذا وعد، نتحدث منذ الآن دون أن نخدع أحداً، وبكل صراحة، فإننا لن نسمح ببناء جسم أمني أو عسكري في لبنان سيطعننا في الظهر».

ما تريده ميليشيا حزب الله أن يكون في لبنان جيش ضعيف، وقوى أمنية واستخباراتية ضعيفة لا أكثر ولا أقل.

ثمة في لبنان من لا يريد أن ينمو في مؤسساتنا العسكرية والأمنية وسام الحسن جديد أو فرونسوا الحاج جديد، وسيظل يصارع الدولة على مشروعها ومشروعيتها وسيظل يمنع عنها كفاءة أن تكون البديل. هنا تدور المعركة الأساس.