رضوان السيد

بعد مائة عامٍ بالضبط على ترتيبات «سايكس - بيكو»، يعود الدوليون للتدخل من أجل وضع ترتيبات جديدة، بهدف استعادة الاستقرار، ومكافحة الإرهاب. 

واستعادة الاستقرار بترتيبات جديدة مسألة شديدة الصعوبة، ولذلك جاءت قصة مكافحة الإرهاب، لتغطّي وتُشرْعِن تلك الترتيبات. السبب الرئيسي لتداعي الاستقرار كما هو معروف يكمن في فشل تجربة الدولة الوطنية العربية، والمشروع القومي العربي. أما فشل الدولة الوطنية فيعود بدوره لسببين أو علتين: الاستعمار الصهيوني لفلسطين، والديكتاتوريات العسكرية والأمنية السائدة منذ ستين عاماً في دول المشرق العربي. 

فالدول العربية في توتر واضطراب وتناقضات في السياسات، بحيث أدَّى ذلك إلى تمردات في الدواخل، وإلى تدخلات دولية وإقليمية. وبعد كل هزّة في الثمانينات والتسعينات، كانت الديكتاتوريات تزداد شراسة على دواخلها، وتبعية للقوى الدولية والإقليمية. أمّا بعد الحرب على العراق عام 2003؛ فإنّ التدخل الدولي صار شاملاً: الأميركي ثم الروسي. أما الإقليميون (إيران وتركيا وإسرائيل)؛ فإنهم اندفعوا باتجاه الدوليين لاسترضائهم، وتحصيل نفوذ، بحيث يأتي الاستقرار بعد القضاء على الإرهاب وهم موجودون في المناطق والحدود التي سيطروا عليها.

في «سايكس - بيكو»، ما حصل تقسيمٌ فوق تقسيم فقط؛ بل وُجدت دولة جديدة هي إسرائيل. وفي الترتيبات الجديدة تبرز الدولة الكردية، إسرائيل حصلت في الترتيبات الأُولى على فلسطين، وفي الترتيبات الجديدة تتحول المناطق ذات الأكثرية الكردية بالعراق إلى دولة.

وهناك جديدٌ آخر. ففي الترتيبات الأولى ما كانت إسرائيل موجودة بعد، كما أنّ تركيا كانت قد خرجت من الحرب مهزومة (ومع ذلك حصلت على مقاطعة إسكندرون من سوريا، على طريقة استقواء الضعيف على الأضعف!)، كما كانت إيران ضعيفة وشبه مقسّمة إلى مناطق نفوذ للروس والبريطانيين وبعض المحليات والجهويات. وما أقصده أنّ الجوار الإقليمي للعرب، والذي كان يملك وقتها مطامح ومطامع أيضاً، ما استطاع التدخل والمشاركة في عمليات التقسيم والاكتساب، أما اليوم؛ فإنّ الأتراك عندهم دولة موحدة وقوية، وكذلك الإيرانيون.

الأميركيون يقولون الآن إنهم أخطأوا خطأ فادحاً بالتدخل في العراق عام 2003، ولذلك فهم يتحملون المسؤولية الأخلاقية والاستراتيجية، ولذا فقد عادوا إليه لمنع انهيار ما ركّبوه، ولحماية الأكراد من «داعش»! إنما علينا أن لا ننسى أنّ العراق - مثل سوريا - كان منطقة نفوذٍ روسي، ولذلك فإنّ الروس يعتبرون عودتهم طبيعية، وبشراكة ومنافسة مع الولايات المتحدة.

أما «غير الطبيعي» من وجهة النظر الأُممية والاستراتيجية، فيبدو في التدخلين الإيراني والتركي، وهما سواء في الضرر والسوء على تركيبة الدول وعلى المجتمعات العربية. 

ويبدو التدخل الإيراني من وجهة نظر الجمهور أكثر سوءاً من التدخل التركي؛ وذلك من جهتين؛ الأولى أنّ إيران تتدخل لتقسيم المجتمعات وحشدها بتنظيمات مسلحة طائفية من أبنائها، ويقودها ضباط في الحرس الثوري الإيراني، والثانية أنّ أهداف تركيا دفاعية فقط، لحماية الداخل التركي من الأكراد الثوار في العراق من قبل، وفي سوريا الآن. والذين يبررون التدخل التركي الذي يمكن أن يحصل في إدلب وقُراها، فيخفّف من آثار النموذج الحلبي للخراب، ينسون أن الأتراك أنفُسهُم هم الذين سحبوا المسلحين الذين يمونون عليهم من حلب، فأعانوا على سقوطها! 

وعلى أي حال فإنّ الإيراني (وبحسب التجربة والمعلومات)، لا يدخل منطقة عربية إلاّ وهو يعمل مثل المستعمرين: يجلب معه التاجر والعسكري والشيخ المبشِّر. وما عاد يقبل من العربي السني أن يسكت عنه أو يخضع له، بل هو يُهجِّر ويشيِّع، ويكفّر، ومن لا يعجبه ذلك ولا يصمت؛ فإنه يكون بالطبع إرهابياً حلال الدم والعرض!

المطلوب إذن دولياً العودة إلى الأوضاع السابقة باعتبارها عودة إلى نظام الدولة، وبالتالي داعية استقرار. إنما وكما سبق القول، لا يمكن العودة إلى الأوضاع السابقة كما كانت. فهناك من الجديد الدولة الكردية في العراق، واحتمال الدولة الكردية في سوريا. وهناك 12 مليون مهجَّر سوري، سوادهم الأعظم من العرب السنة. 

وهناك خمسة ملايين مهجَّر عراقي، وسوادهم الأعظم من العرب السنة. ورغم التعب الهائل، هناك حالة سخط شعبية عامة، وليست هناك إمكانية استقرار يُعتمد عليه إلاّ بزيادة شرعية الدولة والحكم الصالح. والحكم الصالح غير ممكن مع ميليشيات «حزب الله» والحشد الشعبي والفاطميون والزينبيون... الخ في سوريا والعراق ولبنان. ولا يُتصور قيام حكم صالح مع الأسد والمالكي والجنرال عون وقاسم سليماني وحسن نصر الله.

فماذا يفعل الروس إذن؟ الروس يقومون بما قام به الذين حاولوا إيقاف الحرب اللبنانية: إشراك جميع أطراف الحرب في النظام، ومع الجنرال عون وصل أطراف الحرب إلى رأس الدولة أيضاً. وكانت النتيجة أنّ الدولة المدنية مع هؤلاء ظلت غير ممكنة، ولا حتى النظام الديكتاتوري!

التكتيك الروسي: إخماد إطلاق النار من خلال مناطق «خفض التصعيد» ثم المصالحات التي تعيد قوات النظام إلى الأماكن التي خرجت منها عام 2013. وبعد ذلك لا بأس بالعودة إلى جنيف، وتنفيذ شبيه القرار الدولي 2254. وعلى طاولة آستانة يجلس الروس ومعهم الإيرانيون والأتراك وممثلو النظام السوري وممثلو الكتائب المسلحة وبعض أقطاب المعارضة. وليس بين الفرقاء طرف عربي واحد، ولا حتى الجامعة العربية. 

وقد حصل الروس على تعاون المصريين والأردنيين، وهم يحاولون الحصول على تعاون السعوديين أو صمتهم. والمفهوم أنّ الروس يستعينون بالأتراك وبالسعوديين لكي تبقى المعارضة موحدة أو تُصبح، لكي تحصل على بعض وعود الـ2254. لكنْ ليس هناك ضمان غير الضمان الروسي. 

وتحاول المعارضة استحداث توازُن، من طريق السعودية وتركيا... والولايات المتحدة. لكنّ الجميع يشكون (حتى الروس!) من الانسحاب الأميركي. وقد علّق الأميركيون الدعم عن المعارضة في الجنوب، لكنهم يدعمونها في القتال تحت راية الأكراد إنما هذه المرة في دير الزور، وليس في الرقة! وبالطبع فإنّ ذلك لن يُزعج النظام فقط؛ بل وسيزعج الروس والإيرانيين والأتراك.

لكنّ الخلطة تبدو أكثر تعقيداً. فمن الترتيبات الجديدة، وربما التعاون الجديد بين أميركا وروسيا: أن تدخل إلى إدلب قوات من الثوار للحلول محلَّ النصرة وبدعمٍ تركي قوي. وهذا لا يسر النظام السوري ولا إيران أيضاً.

استدعت الترتيبات الجديدة إذن أن يحضر الجميع إلاّ العرب، بينما السكان بالمنطقة عرب في سوادهم الأعظم. واستدعت الترتيبات أن يعود الجيش إلى السلطة التي كادت الثورات تُخرجه منها. واستدعت أن تقبل تلك الشعوب بحكامٍ أيديهم ملوَّثة بالدماء، وثلثهم مهجَّرون، والحكم طائفي صريح وتابع. ومع ذلك وحتى لو قبل السكان، فلن تبقى الأرض واحدة ولا الدولة: بالكيانات الكردية، وبالميليشيات الإيرانية المسلَّحة، وبالقواعد الروسية والأميركية. يرضى القتيل وليس يرضى القاتل. ويا للعرب!