بول شاوول

لغة التخوين انتقلت مع خفافيش جماعات ما يُزعم أنها «مقاومة» أو «ممانعة»، من الإطار السياسي إلى الثقافي. كأنهم يفتحون قنوات متصلة بين الإثنتين لفرض إرهاب مزدوج، على الكُتَّاب والفنانين. لكن المؤسف أن الضربة الغادرة جاءت هذه المرة من الصحافة نفسها، ومن مثقفين، لتنتشر انتشار الإشاعة إلى سائر العامة، على شاشات الإنترنت والفيسبوك. من تخوين من أكثر من مليون لبناني في تظاهرة 14 آذار إلى تخوين رموزها، واتهامهم بالعمالة لإسرائيل.. ثم اغتيال بعضهم.. ليتهموا إسرائيل بارتكاب جرائمهم.


الضحية الطازجة اليوم هو المخرج اللبناني السينمائي الكبير زياد دويري. نبش خفافيش الظلامية الملفات القديمة فعثروا على «ضالتهم» المنشودة التي تغذي فصامهم وعماهم، وموتهم الداخلي: قبل ست سنوات زار المخرج الأراضي الفلسطينية المحتلة لتصوير آخر لقطات فيلمه «المصيدة». رائع! «وجدتها» قال أحدهم. التقطت «الحُجَّة» الدامغة لخيانة المخرج، قالها آخر؛ أوقعناه، عشية افتتاح فيلمه في بيروت «القضية 23»، قالوها بأصوات أوركسترالية ببّغائية.

مقالات هؤلاء المنتمين إلى معسكر القتلة والطغاة والعملاء، استخدمته السلطات اللبنانية كإخبار. (وهو من باب الوشاية)، فأوقف الأمن العام زياد لدى وصوله إلى مطار بيروت آتياً من مهرجان البندقية حاملاً جائزة أفضل ممثل للفلسطيني كامل الباشا على أدائه. أوقفه الأمن العام وصادر جوازَي سفره اللبناني والفرنسي.. واستجوبه ساعتين ثم أحيل على المحكمة العسكرية، واستجوبه مفوض الحكومة لدى المحكمة المذكورة صقر صقر، ووقف على الحقيقة، ثم أخلى سبيله مبرئاً إياه نهائياً من التهمة «لا نيّة إجرامية تجاه القضية الفلسطينية».

فالمسألة إذاً تتعدّى إخبارية «الوشاة» أو «الجواسيس» إلى ما هو أهم وأوسع استمراراً لممارسة جماعات الممانعة وحزب الله. الذي لعب دوراً «مشرّفاً» في هذه المسألة، من خلال أبواقه ومرتزقته، وتكشف كراهيتَهم لكل ما هو إبداع في هذا البلد، وكل ما هو جميل، ولكل ما يُذكّر بدوره الطليعي في النهضة العربية. ووجدوا في زياد دويري فريسة سهلة، عزلاء، مدنية، لتكون عبرة لكل مَن تسول له نفسه أولاً مساندة القضية الفلسطينية. ففيلم زياد دويري الذي صور آخر لقطاته في القدس المحتلة، ليس فيلماً «إسرائيلياً» ينحاز إلى الصهاينة كما دس بعضهم، بل هو جزء من معركة ثقافية ووطنية مع الشعب الفلسطيني وقضيته المحورية.

على هذه النقطة بالذات، نُذكِّر خفافيش النظام السوري و«عتاولة» المقاومة، أنهم هم بالذات مَن نسّق مع إسرائيل في السبعينات والثمانينات لتصفية المقاومة الفلسطينية، ابتداء بمخيم تل الزعتر (بواجهات ميليشيوية مسيحية)، ثم بالحرب التي شنّوها على المخيمات الفلسطينية في بيروت، بواجهات شيعية فحاصروها، وحاولوا إحراقها، وكذلك في الشمال وصولاً إلى طرابلس بواجهات فلسطينية مأجورة (أحمد جبريل)، وبتدخّل مباشر من القوات السورية.. وبين الحربَين، وقع الغزو الإسرائيلي، ليصفّي الوجود العسكري في منطقة التماس الجنوبية مع إسرائيل، فهؤلاء المنسقون مع العدو، يهمّهم دائماً اتهام الآخرين بما ارتكبوه. وكأنّ زياد دويري بزيارته القصيرة إلى الأرض المحتلة، أعاقهم عن احتلال القدس. يعني لو تأخرت زيارته يومين لكان السيد حسن نصرالله وبشار الأسد والحشد الشعبي والحرس الثوري الإيراني في قلب القدس! (هيك بتعمل يا زياد، تفوت انتصاراً على أصحاب المقاومة وجبهات التصدّي والصمود؟!).

] التطبيع

أمّا اتهام دويري بالتطبيع، فيأتي من جهات، لم توفّر طريقة (من تحت الكراسي، أو من وراء الكواليس)، لم تتوسلها لدمغ بصماتها في التطبيع. ويكفي أن نتذكر تصريحات نتنياهو وبعض قادة العدو العسكريين التي عمّت التلفزيونات إبان ثورة الشعب السوري على طغاة دمشق: «سقوط بشار الأسد كارثة على إسرائيل»! وكان هذا بمثابة ضوء أخضر لحزب الله ولإيرانه بالذهاب إلى سوريا لإنقاذ النظام تحت شعارات مذهبية قميئة. وهل سمع أحدٌ منّا أو قرأ تصريحاً لمسؤول إسرائيلي واحد يستنكر مشاركة إيران بـ«فيلق القدس» أو بحزبها «اللبناني» في سوريا؟

فما اتّهم به زياد دويري من عنديات ومقتنيات وإنجازات وهويات «الممانعين» و«المقاومين»؛ أولم يصرح بعضهم وهو على بُعد أمتار من الجولان المحتل بأن «إسرائيل ليست من أولوياتنا»: رسائل تطمين ووفاء بالعهود بين العدو وبين مَن يزعمون مقاومته.. وهل ننسى التنسيق بين إيران وأميركا في غزوة العراق، وإسقاط صدام حسين؟

] «اسانس» الخيانة

فالمخونون المعروفون هم «أسانس» الخيانة، والغدر. ونظن أن هزيمة إيران وحزب الله في سوريا، وهيمنة روسيا وأميركا على «محصلات» الحرب هناك، جعلت الحزب يبحث عن انتصارات وهمية مثلاً في معاركه التلفزيونية (ومفاوضاته الثرية) مع داعش والنصرة – في جرود عرسال، وطنطناته بنصر تاريخي، لكن الهزيمة لم يمحُها «نصر» مزيف. ولكي يكمّ أفواه العارفين بالحقائق، كان لا بد أن يستثمر كل سانحة، لتحويل أنظار الناس عن فضيحة إنقاذ الداعشيين في جرود بعلبك، والقاع.. بحسب صفقات جاهزة، ونقلهم مكرّمين معزّزين إلى الأراضي السورية ببوسطات مكيّفة رائع! ألم يقل الحزب «إن داعش أخطر من إسرائيل»، بل ألم يقل إن داعش من صنع إسرائيل؟ عال! إذا صدقنا أقوالهم فيعني أنه بإنقاذه الداعشيين من قبضة الجيش اللبناني قد أنقذ عملاء إسرائيل!

] القمع

وهكذا جاءت قضية زياد دويري، كجزء من القمع، وكوسيلة تغطية، وردّ التهم هذه المرّة إلى المثقفين. اللعبة مكشوفة، وأبوابها مشرّعة. ولا ننسى أن انتصارات الجيش الباهرة على «دواعش» إيران، والتفاف السواد الأعظم من الشعب حوله، أزعج حزب الله. إذاً، فليبحث عن مواضيع تغطّي على فضيحته الداعشية المدوية، وعلى انتصارات الجيش الذي يعتبره اليوم «عدوّه» الراهن والمقبل. (وسيحوك هذا الحزب مع حليفه السوري مؤامرات بشّرانا بها، من باب التهديد والتهويل والترهيب).

فهؤلاء الخفافيش الذين دُفعوا إلى اختلاق تهمة تلطّخ صورة زياد دويري، وتعيق تقديم فيلمه الجديد، أو تمنعه، لم يخرجوا، كأبواق مرتهنة، عن محاولات الممانعة لتشويش الأجواء اللبنانية، والتعتيم على موبقاتها وهزائمها.

ونظن أن هؤلاء، بفعلتهم هذه، أرادوا أن يورّطوا الدولة اللبنانية أيضاً، ليصوروها دولة قامعة لحرية الفكر، والتعبير وعدواً للإبداع، على غرار الدول التي صنعتهم واحتضنتهم كسوريا الأسد وإيران خامنئي. تماماً كما حاولوا تشويه صورة الجيش اليوم، وصورة الدولة... على امتداد عقود...

] الإعدام

وفيلم زياد دويري جاء في ميعاده. وعلى طبق من الذهب للممانعين. وقد ذهب بعضهم إلى المطالبة بإعدام المخرج، في الوقت الذي يجب أن يطُالب كثير من الشعب اللبناني بإعدام مَن اغتالوا الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ووسام الحسن، وجبران تويني، وجورج حاوي، وبيار أمين الجميل.. انسحاباً إلى كمال جنبلاط، والمفتي حسن خالد، والدكتور حسين مروة، ومهدي عامل.. وسهيل طويلة.. فما أجمل الخونة والمجرمين، والمتواطئين معهم، عندما يخونون، ويطالبون بـ«العدالة».. عدالة الخوارج عن الوطن.

ونود أن نقول لزياد دويري إن هؤلاء «خوّنوا» من باب التمويه على نكساتهم، الرئيسين سعد الحريري وتمام سلام بحجّة أنهم «جبناء» لم ينقذوا المخطوفين من أفراد الجيش اللبناني لا بالمفاوضات ولا بالقوة. في الوقت الذي عارض فيه هؤلاء، في مجلس الوزراء وخارجه، كل تفاوض مع داعش.. ثم، وبقدرة قادر، تفاوضوا مع هذا الفصيل الإرهابي، تفاوض الأحبة ورفاق السلاح!

أكثر خفافيش «الممانعة» و«المقاومة» الذين «هبّوا» لإدانة زياد دويري على «تطبيعه» (الفردي)، وعلى «خيانته»، لم يطالبوا مرة حليفهم النظام السوري أو حتى سؤاله عن مصير 30 ألف لبناني في سجونه منذ أكثر من 40 عاماً! أنقذوا جماعة داعش ولم يحاولوا إنقاذ واحد من هؤلاء السجناء.. اللبنانيين.

] صديقي

إذاً، يا صديقي زياد الذي لا أعرفه شخصياً، لا عليك، فما ارتكبوه بحقك جزء من طرائق تفكيرهم، وخضوعهم، وعلّة وجودهم، ومصدر ارتزاقهم. ألم يمنعوا بث أغانٍ لفيروز في جامعة لبنانية وطنية حولوها إلى حظيرة لصنع كائنات مذهبية، أمّية، لاستخدامها في مشروعهم «الهلالي – الصهيوني» وفي حروبهم العنصرية! ضدّ الموسيقى هؤلاء. ضدّ الشعر. ضدّ المسرح. ضدّ الرسم. ضدّ الحرية. ضدّ الديموقراطية. ضدّ السيادة. ضدّ الشعب. ضدّ لبنان وتاريخه ووجوده.. ضدّ الجيش. ضدّ قوى الأمن. فلا تشعر بالعزلة لأنهم ضمّوك كمبدع كبير رفع اسم بلدنا عالياً في العالم، بل «افرح»، لأنك صرت هذه المرة جزءاً من هواجسهم. ولا أريدك أن تنسى أن هؤلاء في غزوتهم الشارونية في 7 أيار أحرقوا «تلفزيون» وجريدة المستقبل، ثم حاولوا إحراق تلفزيون الجديد، وهددوا الـ«ال.بي.سي» و«النهار».. ومنابر أخرى. ولا نريدك أن تنسى أن هؤلاء، وتطبيقاً لاستراتيجية العدو «إسرائيل الكبرى» بإلغاء دور لبنان الاقتصادي والسياسي والثقافي، وزرع الفتنة المذهبية في العالم العربي، وتحويله حروباً أهلية تقسّمه، وتحوّله دويلات متناحرة. فهؤلاء يعملون على أجندة إسرائيل وخرائطها، بلغة «عربية» هنا، وفارسية هناك، وعبرية هنالك.

لكن، لا نريدك أن تيأس. ولا أن تشعر بأنك وحدك، لأنك جزء من التنوير اللبناني، فلا بأس إن وضعك هؤلاء «الظلاميون» والداعشيون في خانة أعدائهم. ولو حصل العكس لانتكست آمالنا، وخابت أحلامنا..

وهنا بالذات جوهر المقاومة الحقيقية التي يخوضها اللبنانيون، ضدّ الوصايات والطغاة والمجرمين والعملاء واللصوص. هذه المقاومة التي تمارسها المجتمعات اللبنانية، سياسياً وأدبياً ومسرحياً وسينمائياً، وطرق حياة، وحرية، أنت كنت، جزءاً منها وإن بعيداً، واليوم صرت عماداً من أعمدتها وأنت في وطنك.

وإذا كان الجيش اللبناني ووراءه ناسه انتصر على داعش، وعلى الحزب بالذات، ففي المقابل، أنت انتصرت في معركتك على هؤلاء، انتصار ضوء الشمس على الخفافيش (كما صرحت السيدة والدتك بعد إطلاق سبيلك من المحكمة العسكرية).

فخذ هذه القضية إلى حيثما ترحل، وانشرها، وأبدع عليها، فالإبداع لمَن آمن بوطنه، وبقِيَم الحرية، والسيادة، والديموقراطية.

خسئ هؤلاء، وأضاء انتصارك في افتتاح فيلمك، عندما ملأ ناسك الصالات السينمائية الأربع، ووقفوا يهتفون لإبداعك وصمودك، ويصفقون لك!

انتصار الجيش جزء من انتصارك. وانتصار الشعب اللبناني.. لن يكون سوى ثمار مقاومتك الإبداعية لهذه الظواهر السرطانية، والأورام الخبيثة!