عرفان نظام الدين

لا خلاف عَلى حقيقة ثابته يعاني منها العرب وتقتل فيهم كل أمل بالخروج من النفق المظلم. ولا اختلاف على واقع أن ما وصلوا إليه يمثل قمة الانهيار والتخلف واليأس، بل إن هناك إجماعاً بأن الدول العربية، فرادى ومجتمعة، تعيش حالة النزع الأخير لتتحول إلى ما يشبه «الرجل المريض» الذي يتسابق الآخرون على انتزاع أكبر حصة من التركة، غير آبهين بالمصير والأخطار.

والمؤسف أن الأهل يشاركون، عن قصد أو عن جهل أو عن عمالة، ليس في دفن الرجل المريض فحسب، بل في دفن الآمال والحاضر والمستقبل وكل ما يملكونه من إرث وميراث وحضارة وسيادة وثروات. ففي الجانب الآخر يجلس أصحاب المطامع والغايات والأحقاد على طاولة اللئام يتقاسمون، سراً وعلانية، تركة الكرام المتوارثة أباً عن جد ويتوزعون الخرائط ويرسمون الحدود ويقيمون القواعد ويتقاسمون الغنائم ويتسابقون للحصول على أكبر حصة من المكاسب والمصالح بالقوة أو بالتفاوض وتبادل المنافع.

هذه الصورة البانورامية للوضع العربي تمثل جانباً واحداً من جوانب الكارثة المحتمة التي تهدد المصير بعد مرحلتين مر بها أو وصل في النهاية إلى ما وصل إليه: الأولى تمثلت في تراكمات العهود وإهمال الأنظمة وأساليبها في إدارة البلاد وعدم حفظ الأمانة ومنع وقوعها في براثن المطامع والفساد والقمع والفشل في إقامة بنى تحتية اجتماعية ووطنية واقتصادية وعمرانية وثقافية وتعليمية متينة وقادرة على الصمود والتكيف مع المتغيرات في كل زمان ومكان.

إلا أن الفشل الكبير تأكد في عدم بناء القوة الذاتية وتوحيد الصفوف لمواجهة الخطر الأكبر، وهو الخطر الصهيوني الذي يهدد أسس الكيان العربي ويسعى إلى محو الهوية وإشاعة أجواء اليأس والإحباط واتباع أسلوب القضم التدريجي، وصولاً إلى المخطط التوسعي الإجرامي الذي عاد إلى الواجهة أخيراً والرامي إلى تحقيق شعار «دولة إسرائيل من الفرات إلى النيل» بعد مرحلتي ضم أراضي فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨ وبعدها أراضي فلسطين المحتلة عام ١٩٦٧ ومعها مرتفعات الجولان السورية.

فمنذ نكبة ١٩٤٨ لم يحقق العرب أي خطوة إيجابية نحو هدف التحرير، سلماً أو حرباً، بل على العكس. فقد توالت الهزائم العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بيدنا قبل يد إسرائيل، مع تكرار مسرحية سقوط أنظمة وصعود أنظمة رافعة شعارات براقة تحتكر الوطنية.

وها نحن اليوم نعيش حالة خوف من أن قطاف المؤامرة قد حان بعدما شهدناه من حروب ودمار وقتل وتشريد ووحشية وانهيار لمؤسسات الدول وهوية الشعوب التي تحولت إلى مجموعات نازحين ولاجئين ومهاجرين أو غرقى في البحار والمحيطات، هرباً من الواقع المظلم عدا عن المعدمين والمشردين والمتسولين والمعتقلين والمعوقين.

هذه المقدمة ليست ورقة نعوة نرثي فيها حال العرب، ولا المقصود منها المساهمة في إشاعة أجواء اليأس أو المشاركة في جلسات جلد الذات والإيحاء بأن كل شيء قد مات وانتهى، ولم يبقَ لدينا إلا التسليم بالأمر الواقع وذرف الدموع والاستسلام لأنه لم يعد هناك أمل بالخروج من النفق المظلم. فالهدف المقصود من وضع اليد على مواطن العلل هو دق ناقوس الخطر والدعوة إلى النهوض من الكبوة والصبر والصمود والعمل على إعادة إحياء الآمال بتحقيق ما يبدو أنه مستحيل على رغم الأجواء السوداوية المظلمة الراهنة.

ولا ننكر بأن الطريق صعب ومحفوف بالأخطار والصعوبات، كما أن علينا ألا نتجاهل حجم المؤامرة الكبرى التي يتعرض لها العرب من جانب «الذئاب الكاسرة» والأعداء والجيران «والذئاب المنفردة» وأصحاب المطامع، وفي مقدمهم إسرائيل والدول الكبرى والقوى الإقليمية المجتمعة، أي إيران وتركيا.

ولا مجال أيضاً لإنكار حقيقة أحوال العرب المزرية، لكن من يقرأ التاريخ يدرك قدرتهم على تحقيق النصر. فقد مروا بظروف أسوأ وأخطر ونجوا منها، ونُكبوا باحتلالات وغزوات من كل حدب وصوب، وانتصروا عليها. وأقيمت على أراضيهم دول وامبراطوريات حاولت محو هويتهم وإلغاء لغتهم، لكنها اندثرت عندما انتفض المارد العربي وتوافرت له عوامل الإيمان والعزة والإرادة والعزيمة. وتوالى على الأمة كل أشكال الاستعمار والاحتلال والانتداب، وجرى رسم خرائط وحدود وتقسيم دول ونهب ثروات، إلا أن صمود أهلها أدى إلى انحسار قوى الشر وزوال هيمنتها.

وقد يقول قائل إن الوضع الراهن أصعب وأشد خطورة، بسبب تفتت العرب وانقساماتهم وعصبياتهم من جهة، وشراسة القوى الطامعة ومساراتها إلى إكمال مهمتها الشريرة مهما كان الثمن، وكسر شوكة العرب والسيطرة على مقدراتهم وتقسيم دولهم وتشجيع قيام دول طائفية ومذهبية وعرقية لتكون يد إسرائيل هي العليا في المنطقة.

كل هذا صحيح، إلا أن الواجب يدعونا إلى عدم اليأس وإطلاق صيحة تحذير مع طرح سؤال على الجميع وهو: أليس فيكم حكيم يسارع إلى لمّ الشمل وإطفاء نار الحرائق وحل الخلافات؟ أليس فيكم قائد مخلص يدق ناقوس الخطر ويدعو إلى النهوض لمواجهة المؤامرة الكبرى؟ أليس فيكم رجل مؤمن يدعو إلى الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق، ويردد ما أمرنا الله به من التضامن وإعداد القوة للتصدي وما حذرنا منه بأن «لا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم». وهنا نصل الى السؤال المحوري المهم: هل وصل الوضع إلى حالة ميؤوس منها؟ وهل بات من الصعب وضع خريطة طريق للخروج من النفق المظلم وإنقاذ ما يمكن إنقاذه والانتفاض للكرامة والحاضر والمستقبل ومصير الأجيال الحائرة والتائهة؟ يكفي هنا رد أولي على هذا السؤال بتعداد بعض النقاط الرئيسة السهلة التي تساهم في تحقيق هذا الغرض، وهي:

* وقف الحملات الإعلامية ومنع أي عمل مسيء أو مثير للفتن بين مختلف مكونات الأمة، وإعادة الاعتبار لمفاهيم التضامن والوحدة الوطنية والتآخي والتعايش بين مختلف الأطياف الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية والتأكيد على المصير المشترك.

* تجريم التعرض للأديان والترويج لدعوات الكراهية والأحقاد والعمل على فتح أبواب الحوار وفق مبدأ المساواة والاعتراف بالآخر.

* فتح قنوات حوار داخلي للبحث عن القواسم المشتركة لإعادة لمّ الشمل ورأب الصدع والاتفاق على عقد اجتماعي جديد تقوم أسسه على العدالة والحريّة والديموقراطية والمساواة تحت سقف القانون مع الاستعداد لتقديم تنازلات من جميع الأطراف، وصولاً إلى حل وسط تقبل به مكونات الوطن الواحد لنزع صواعق الحروب وإزالة الشعور بالغبن والظلم. ويتم ذلك باعتماد خطوات عملية متكاملة لا إقصاء فيها لأحد ولا اجتثاث ولا تهميش وعزل.

* التوافق على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية ونبذ اللجوء إلى القوة والتطرف والعنف والإرهاب بكل أشكاله ومبرراته.

* فتح صفحة جديدة وطي صفحة الماضي الأليم بكل مآسيه وأخطائه وخطاياه والمشاركة في بناء مستقبل لا حروب فيه ولا كراهية ولا فتن، والبدء بإعادة الإعمار بتكاتف الجميع لاجتياز المرحلة الصعبة ووضع ضوابط قاسية وحازمة لقطع دابر الفساد والهدر.

* في المقابل، لا بد من فتح أقنية الحوار بين الدول العربية واعتماد المصارحة التامة حتى تتوافر الإمكانات الميسرة لتحقيق المصالحة. فإذا تحقق هذا الأمر، يتم الانتقال إلى حل مشكلات العلاقات العربية - العربية بأيدي لجنة حكماء تعمل على إزالة العقبات ونزع صواعق التفجير من أجل إقامة علاقات طبيعية ومتينة أسوة بالعلاقات الدولية.

* الاتفاق على مشروع اقتصادي شامل تشارك فيه كل الدول العربية لإعادة إعمار ما هدمته الحروب والأزمات، وإيجاد فرص عمل لملايين الشباب الذين يعانون الأمرّين، وإعادة ملايين اللاجئين إلى ديارهم بعد تأمين وسائل الحياة الكريمة والآمنة لهم.

* وقف التدخلات الخارجية من الدول الكبرى والإقليمية واتخاذ مواقف حاسمة للتصدي للمخططات الخبيثة الرامية إلى الهيمنة على المنطقة بأسرها ونهب الثروات وإحياء عهود الاستعمار والتبعية.

* إعادة التركيز على القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني بالعمل أولاً على منع التدخل في شؤونهم وتوحيد صفوفهم، بدءاً من إعادة توحيد قطاع غزة والضفة الغربية تحت راية سلطة موحدة بدعم عربي للبحث عن حل عادل ورفض أي تنازل عن الحقوق المشروعة أو أي شبر من الأراضي الفلسطينية.

هذه النقاط الأساسية من خريطة طريق قد تبدو عاطفية وغير عملية وصعبة التنفيذ، لكن علينا أن نحلم ونتمنى ونطلق الصرخة ونطالب بالتحرك الفوري للإنقاذ قبل فوات الأوان حتى لا يغرق المركب العربي بكل من عليه. إنها صرخة حق لا خير فينا إن لم نطلقها ولا خير فيكم إن لم تسمعوها.