حسن أبو طالب

«على علماء الأمة أن يرفعوا راية الاجتهاد، ويدافعوا عن مبادئ السماحة فى الدين، والرحمة فى التشريع، والوعى العميق بتطورات الحياة المعاصرة والتكيف اللازم مع شروطها، مع التسليم المطلق بقدسية النصوص وحقوق التأويل وضرورة التجديد فى الفهم، مع اعتبار الأولوية القصوى لرفع شأن الشعوب الإسلامية، بحشد طاقاتها للتنمية وترقية العلوم والفنون والآداب، والدخول الجاد فى سباق الحضارات العلمى، وعصر مجتمعات المعرفة والإنتاج والتقدم». هذه الفقرة هى إحدى فقرات عديدة تمثل مجمل «وثيقة الازهر الخاصة بتجديد الخطاب الدينى»، وكما هو واضح فإن الفقرة تتجه الى علماء الأمة المصرية والإسلامية وتحثهم على الاجتهاد والدفاع عن مبادئ السماحة والرحمة فى التشريع. 

وفى فقرة أخرى تقول الوثيقة إنه «تبعًا لمناطق التراكم المعرفى فإنه يجب اعتبار اجتهادات العصور السابقة فيما بعد عصر الأئمة الأول غير ملزمة للفكر الحديث، فهى قاصرة على ظروفها وضروراتها، ولكل عصر أطره المعرفية»، كما تؤكد أن «التجديد لا يعنى أبدًا التخلى عن الأصول الثابتة كما قد يتوهم بعض المحافظين، بل يتم بتعميق الوعى بالمقاصد الكلية والمبادئ الناظمة للأحكام التى تتنزل على متغيرات الحياة». 

وحين يقرأ المرء هذه الوثيقة وغيرها من الوثائق التى أصدرها الأزهر الشريف وتحث على إعمال العقل ومراعاة حقائق الحياة الجديدة التى لم تكن موجودة فى أزمان سابقة، يعجب كثيرا مما يذهب إليه بعض علماء لهم صلة بالأزهر إما من خلال التعلم فى رحابه، أو العمل فى إحدى مؤسساته التعليمية، لإصدار فتاوى ليست فقط غريبة، ولكنها تجافى الطبيعة الإنسانية، ولا يمكن لإنسان رشيد وسوى أن يقبل بها أو حتى يفكر فيها أصلا، مثل فتوى جماع الوداع بعد وفاة الزوجة. صحيح أن قائلها تراجع عنها واعتذر بعد موجة الرفض والاستهجان التى وجهت إليه من كبار العلماء وغيرهم من الناس العاديين الذين لم يستوعبوا مثل هذا الفعل المناقض لجلال الموت وحرمة المتوفى، واستنكارهم أن يكون هذا القول له أساس شرعى أو عمل به أو دعا إليه أئمة ثقاة. بيد أن هذا التراجع والاعتذار لا ينفى أن هناك أزمة كبرى لدى بعض علماء أو دارسين للفقه تتعلق بالقدرة الفكرية على استنباط الأحكام، وعلى استيعاب جوهر الدين الإسلامى وعلاقته بحياة الناس وتنظيمها بما يحفظ كرامتهم وإنسانيتهم التى كرمها الله سبحانه وتعالى. 

وقد يتعلل بعض هؤلاء الفقهاء بأنهم ليسوا سوى ناقلين عن من سبقهم من أئمة لهم احترامهم ومكانتهم طوال التاريخ، وهو تعليل لا يعطى أى مشروعية لفرض اجتهاد بشرى فى زمن غابر على زمن مختلف ويطرح كل يوم مشكلة أو معضلة فكرية أو سلوكية تتطلب النظر فيها من خلال ثوابت الدين، وإعمال العقل والتفكير المنطقى، والمنطلق الانسانى الذى يراعى مصالح المجتمع ويضمن له استقراره وتمسكه بدينه، وفى الوقت نفسه تحفيزه لكى يكون عنصرا فاعلا فى منظومة الحضارة الإنسانية بكل عناصرها وآلياتها. 

وثمة بعد مؤسسى فى هذه الواقعة وفى غيرها من الوقائع المشابهة، فالوثيقة المُشار إليها والتى كُتبت بعد مناقشات ثرية على مدى عام كامل لمجموعة كبيرة ومتنوعة من المفكرين والمثقفين وبعض علماء الأزهر وتحت رعاية فضيلة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب، تبدو وكأنها غريبة على بعض أهل الأزهر أنفسهم، وتلك مفارقة يمكن فهمها على معنيين، الأول أن هناك فى الأزهر مقاومة أو رفضا أو على الأقل لا مبالاة للاجتهاد الرصين وفق الرؤية المتضمنة فى الوثيقة، والثانى أن هناك مسافة بين عقل المؤسسة الأعلى، وبين المستويات المختلفة داخل المؤسسة. والأمران يتطلبان أسلوبا جديدا فى تثبيت وتدعيم الأطر الفكرية للوثيقة فى أرجاء الأزهر نفسه قبل غيره من المؤسسات. ومكانته الكبرى تستدعى منا الخوف عليه وتقدير ومساندة كل خطوات الإصلاح والتجديد داخله. 

لقد أثارت الدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى أسئلة عديدة عن مضمونها وآلياتها، وكثير من الذين أدعوا أنهم مع التجديد تطبيقا لدعوة الرسول الكريم للمسلمين إلى تجديد إيمانهم حتى لا يبلى، إلا أنهم صوروا الأمر فى النهاية باعتباره يُخرج المرء عن ملته، وأن هدفه هو إفساد الدين نفسه وتغيير ثوابته، والخضوع لاملاءات خارجية. ومثل هذا التصوير المبتسر لدعوة تجديد الخطاب الدينى، كشفت إلى أى مدى سطوة الأفكار القديمة وحجم الرفض لإعمال العقل. 

إن الدعوة الى تجديد الخطاب الدينى وإن ارتبطت فى الأساس بمواجهة الفكر المتطرف والفتاوى الطائشة التى صورت الاسلام، وكأنه دين القتل والعنف والتخريب، وتكفير المختلفين، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، وهو أمر ضرورى ولا خلاف عليه، لكنه ذ اى تجديد الخطاب الدينى - لن يؤتى ثماره إلا إذا كان الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية أكثر اتساعا وشمولا من مجرد مواجهة وفضح دعاة التطرف رغم أهمية ذلك القصوى. ومن ثم فإن الاجتهاد المرتبط بواقع الأمة يتطلب أن يكون فى كافة القضايا والاشكاليات التى تواجه المجتمع المسلم المعاصر، وثانيا أن يرتبط بحرية الفكر والمراجعة النقدية الرصينة لكتب التراث، والتى تمثل اجتهادا بشريا يُشكر عليه أصحابه، ولكنه يقبل النقد والمراجعة والرفض أحيانا، ولا يمثل بالضرورة قيدا على حركة الأمة فى الزمن الراهن. وثالثا ألا يتصدر للفتوى إلا المراجع الثقاة والمؤسسات المتخصصة، وليس الدارسين الهواة والناقلين والمجمدين عقولهم عن عمد وإصرار. 

إن التساهل فى إطلاق الفتاوى الطائشة تسبب فى كثير من الآلام للأمة بأسرها، ولن تتوقف تلك الآلام إلا بقيام المؤسسات الدينية والتعليمية والمجتمع المدنى بما عليهم من مسئوليات تجاه هذا الوطن انطلاقا من احترام كرامة المواطنين، وحقهم فى حياة متوازنة بين إيمانهم الدينى وحوائجهم المشروعة المرتبطة بشيوع التنمية والعدالة معا فى ظل تطور علمى غير مسبوق وتغيرات كبرى فى أنماط الحياة ومعضلات فكرية وسلوكية تهتز لها الجبال. وكل من التنمية والعدالة أمران شرعيان لا يمكن التشكيك فيهما. أما تشويه إدراكات الأمة من خلال إثارة غرائب المقولات باعتبارها فتاوى شرعية، وهى لا تعدو أن تكون مقولات طائشة وفاسدة، فتلك جريمة فى حق كل إنسان، و يجب ألا يفلت صاحبها من العقاب حتى ولو كان عقابا معنويا يصدره المجتمع نفسه ويؤدى إلى عزل هؤلاء ورفض ما يطرحونه من ترهات ومفاسد.