طيب تيزيني

ثمة مبدأ منهجي في الدراسات الاجتماعية والتاريخية وغيرها مفاده أن موضوع البحث يظل مرتبطاً بقدر أو بآخر بالباحث الذي ينجزه سلباً أو إيجاباً، بسبب الالتزام بقواعد البحث العلمي أو بضعفه أولاً، وكذلك باحتمال عدم الالتزام الموضوعي أو بضعفه، كأن يكون الباحث متحيزاً لموقف مسبق ما، سياسياً أو أيديولوجياً. ومن ثم، فالأمر مرتهن بالزمن التاريخي وتطور الأدوات البحثية المعرفية، كما بالمستوى العلمي للباحث نفسه.

سنبدأ بشخصية مركزية لضبط المسألة بمقياس علمي، هي الفيلسوف الألماني «إيمانويل كانط» (القرن الـ18). فرغم أن «كانط» عاش في ظل المجتمع الرأسمالي، فقد أدان العلاقات الرأسمالية الجشعة، وذلك في كتابه «مشروع السلام الدائم» الذي يبدو أنه تأثر فيه بالفيلسوف العربي الفارابي، خصوصاً في قضية السلام كمبدأ للبشرية.

يقول كانط: «حق النزيل الأجنبي، من حيث التشريع العالمي، مقصور على إكرام مثواه.. لكن حق الإكرام لا يتجاوز الشروط التي تيسر محاولة عقد صلات تجارية مع الأهالي».

ويتابع الفيلسوف التنويري: «ولو نظرنا الآن إلى المسلك غير الكريم، الذي تسلكه دول أوروبا المهذبة، والدول التجارية خاصة، لاستولى علينا الفزع من هول المظالم، التي ترتكبها هذه الدول في غزوها للبلاد والشعوب الأجنبية.. فالذين اكتشفوا البلاد الأميركية وبلاد الزنوج وجزر التوابل والكاب وغيرها، قد اعتبروها بلاداً لا أصحاب لها، لأنهم لم يقيموا لأهلها وزناً».

كان الفيلسوف كانط إذن ممن أسسوا في أوروبا لمبادئ المساواة وعدم التدخل في شؤون الآخرين. لذلك، قدم مشروعاً للسلام العالمي، وضع ضمن مواده التمهيدية المادة الخامسة التي تقول: «لا يجوز لأي دولة التدخل بالقوة في نظام دولة أخرى أو في طريقة الحكم فيها».

بيد أن الأمور لم تسر على النحو الذي قدمه كانط، فكان ثمة خط استعماري راح يسعى لالتهام العالم، خصوصاً الشعوب التي اعتبرها ماكس فيبر «شعوباً غير أصيلة»، مما يسوغ التدخل في شؤونها، على عكس الشعوب الأصلية.

وبوضوح أكبر يتحدث المستشرق «كابلان» حول تلك الشعوب، فيقول: «الشرقيون، ومنهم العرب، ليس لديهم قابلية للتطور، وهم دائمو الخداع لأنفسهم».

وفي كلا الرأيين نزعة تحقيرية تتهم العرب، ومعهم الشرقيون عموماً، بخداع أنفسهم عبر القول بأنهم لا يملكون «قابلية للتطور، ومن ثم فهم لا يعيشون في التاريخ»!

وما ذلك إلا نموذج للفكر الأوروبي في جزء كبير منه. وهنا تظهر العلامة الفارقة، التي أخذت تطبع بشخصيتها فكرتي التاريخية والتقدم في الفكر للعربي، مع تأكيد على هذه الصفة في الأفكار والمشاريع التي تحدثت عن «التقدم العربي في الماضي»، حيث تم «تقديم أدلة قاطعة على الإخفاق العربي التاريخي»!

وقد لفت جمعٌ من العلماء والباحثين الأجانب الأنظار إلى زيف تلك الآراء التي تتحدث عن الإخفاق القائم في البنية العربية، وكان من هؤلاء الباحث البريطاني «بيتر عزان». فقد أنجز كتاباً مهماً حول «تاريخ الرأسمالية في مصر»، رداً على عنصرية الفكر الاستشراقي ومقولاته الزائفة.

لكن الاضطراب الذي كان قائماً في البلدان العربية أظهر صورة أخرى للعرب، خصوصاً مع انتشار ظاهرة الانقلابات العسكرية، والنتائج التي انتهت إليها الوحدة بين سوريا ومصر كمثال سلبي للتحرك السياسي العربي الذي يأتي سريعاً وعشوائياً، لكن دون دراسة شاملة، بل ضمن مناورة سياسية لم تؤسس لاقتصاد متطور وموحد بين القطرين، ما فتح ثغراً لنفاذ مناهضي الوحدة.

وحتى الآن يعتقد أصحاب الآراء الاستشراقية بصحة آرائهم، ويعملون على تمكين النزعات التفكيكية من الانتصار في مرحلة سيادة الاستبداد والفوضى!