سلمان الدوسري

كغيرها من القرارات التاريخية، يتخوف البعض من إصدارها، ويترقب المؤيدون بملل إعلانها، ويمعن المتحفظون في التحذير منها، فإذا دقت الساعة وآن أوانها، واختيرت اللحظة المناسبة لإقرارها، وهيئت الظروف المواتية لتطبيقها، ذهب خوف الناس منها، وأسقط في يد المتحفظين كيفية تقبل الآخرين لها، ومرت بسلام كما لم يتوقع أحد حتى أشد المتفائلين، هكذا هي الحال مع قرار الملك الإصلاحي سلمان بن عبد العزيز بقيادة السيارة، كجزء من عملية ضخمة لتمكين المرأة السعودية ابتدأت فعلياً في اليوم الأول من توليه سدة الحكم في يناير (كانون الثاني) 2015. كلمة السر السعودية كانت دائما وأبداً في التوقيت المناسب، وهكذا كانت حال قرارات كبرى صدرت خلال السنتين والأشهر التسعة الماضية، كان الكثير يستبعدها ويتخوف منها، بل ربما يحذر منها ويبتكر سيناريوهات خيالية لها، ثم تكون المفاجأة بأنها صدرت ومرت بسلاسة مذهلة تنبئ بأن هناك عملية حسابية دقيقة للغاية سبقت المضي بها.

لست مع مَن يرى أن قرار قيادة المرأة للسيارة ليس إلا قراراً سياسياً قبل أي أمر آخر، ففي تقديري القرار السياسي إذا تعلق بقضية مجتمعية مهمة، فلا بد قبله توفير البيئة المناسبة لقبوله واتخاذه على أساس التوافق الثقافي والفكري، ولو كانت المسألة بإجبار المجتمع بقرار سياسي لتمت منذ فترة طويلة، فمتخذ القرار ظل يؤكد أن المنع أو السماح بيد المجتمع وحده، غير أن الإشكالية طوال المرحلة السابقة أن هناك تيارات ظلت تستغل هذا الموضوع بشكل سلبي، وتمضي باتجاه المبالغة في تبعات إصدار مثل هذا القرار، فلما نزعت الهالة ممن ينشرون أفكارهم وكأنها مقدسة، ظهر المجتمع السعودي على طبيعته بعيداً عن التأثير المصطنع وغير الواقعي، مدعوماً بموقف لا يقل أهمية عن هيئة كبار العلماء التي قالت إنها لا ترى مانعاً من السماح للمرأة بقيادة السيارة، لذلك لا يمكن إنكار العمل المنظم الكبير الذي تم في المرحلة الماضية لتوفير البيئة المناسبة لتقبل المجتمع، ولا أظن أن المفاجأة في إصدار القرار بحد ذاته، فالتطور والتحديث اللذان يشهدهما المجتمع السعودي مؤخراً يشيران إلى أن قيادة المرأة قادمة لا محالة، الانتظار كان فقط للحظة التاريخية، وقد حدثت بالفعل.

ولأن قطار الإصلاح الاجتماعي في السعودية ماض في مسيرته دون توقف أو إبطاء، ولأن اللحظة التاريخية والعلامة الفارقة كان لا بد لها أن تحضر وإن تأخرت، ها هي المرأة في المملكة تقود السيارة، بقرار إصلاحي آخر على يد القيادة السعودية، التي لم تتوقف عن تغييرات مهمة وجذرية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً في فترة قصيرة زمنياً، أما لماذا نقول أخيراً، فلأن المجتمع السعودي تمكن فعلاً بعد جهد جهيد من التخلص من تبعات مراحل سابقة أدت إلى التأخر في اتخاذ هذا القرار، التي كانت لها أسبابها ومبرراتها في حينها، كما أثبت المجتمع السعودي خلال أقل من ثلاث سنوات جاهزيته للتحديث والتطوير وتقبل أي إصلاحات مجتمعية ساهمت ظروف كثيرة في اعتبارها من المحظورات لعقود طويلة.

بقي أن نشير إلى أنه ومع فوائد هذه الخطوة اجتماعياً واقتصادياً في الداخل السعودي، ومساهمتها الكبرى في مشروع متكامل لتمكين المرأة كجزء من عملية الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، فإنه بقيادة المرأة سقطت ورقة أخرى من أوراق بائسة تستغل سياسياً بصورة بشعة للترويج ضد السعودية في الخارج، فإذا نوقش موضوع سياسي بحت تم إقحام موضوع قيادة المرأة، وعندما يعقد مؤتمر يناقش طبقة الأوزون طرح موضوع قيادة المرأة، وهكذا في كل صغيرة وكبيرة ظل استخدام هذه الورقة بشكل مزعج وغير موضوعي لعقود طويلة، أما الآن فلا أظن أن هناك أي ورقة ممكن استغلالها سلبياً توازي موضوع قيادة المرأة، ويمكن القول إن هذا القرار هو أفضل من عشرات الحملات الإعلامية في الغرب تكلف مليارات الدولارات، ولن يكون مفعوله الإيجابي اليوم أو بعد شهر أو حتى بعد سنة فحسب، وإنما ستجني السعودية آثاره الإيجابية خلال سنوات مقبلة، بعد أن أقفلت باباً مؤذياً يصعب إقفاله من دون إصلاح قفله أولاً.

عند إطلاقه «رؤية 2030» أجاب الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، عن سؤال حول قيادة المرأة السيارة، أنه يعوّل على رغبة المجتمع بين قبوله لتمكين المرأة من هذا الحق أو رفضه لها، مشيراً في سياق حديثه إلى أن القرارات المستقبلية تُبنى على التغيير الاجتماعي، وبالفعل عندما حدث التغيير الذي يلمسه السعوديون بمشاربهم كافة، كان المجتمع على موعد مع قرار تاريخي طال انتظاره، وبالفعل كلمة السر كانت في التغيير الاجتماعي. هذه هي المعادلة السحرية والقوة الحقيقية لانطلاق السعودية الجديدة، التي قال عنها ولي العهد السعودي ذات مرة: «في حال كان الشعب السعودي مقتنعاً، فعنان السماء هو الحد الأقصى للطموحات».