جميل مطر

أكاد أتصور شماتة فلاديمير بوتين ودونالد ترامب بأنجيلا ميركل، بعد أن تأكدت نتائج الانتخابات البرلمانية الألمانية. أكاد في الوقت نفسه، أتصور الزيادة في عزم ميركل على تعويض خسارتها؛ بل وتعويض خسارة الوسط السياسي الألماني كله، بالإصرار على الاستمرار في الحكم، وإدخال التغييرات الضرورية على بعض سياساتها، وكسر شوكة الشعبوية المتسللة إلى السياسة في ألمانيا، ووقف زحف اليمين المتطرف. ميركل تدخل اختباراً جديداً لعله الأصعب في مسيرتها السياسية الطويلة.

كانت الحملة الانتخابية، التي توقفت نهاية الأسبوع الماضي الأشد مللاً في تاريخ الانتخابات البرلمانية الألمانية. في الوقت ذاته، كانت الانتخابات الأكثر دلالة على بداية حقبة جديدة في التطور السياسي في واحدة من أهم الدول الأوروبية؛ بل الأهم على الإطلاق من نواحٍ عدة. وكانت، أيضاً، الحدث الذي أوجز بسرعة حقائق عن ألمانيا السياسية لم أتوقف أمامها لعدم التخصص في الشؤون الألمانية. 

يفترض النموذج الألماني كقرينه البريطاني أن حزباً، أو ائتلافاً من أحزاب المعارضة الذي يحصل على ثاني أكبر عدد من المقاعد في البرلمان يحق له؛ بل يتعين عليه أن يقبل بتحمل مسؤوليته كطرف في الحكم. يظهر هذا الالتزام من وجوب تولي أحد أعضاء هذا الحزب أو الائتلاف المعارض رئاسة لجنة الميزانية.

بمعنى آخر، يحق للمعارضة من خلال هذا المنصب، التأثير في قضايا حيوية، مثل: الدفاع والأمن والتسلح وتكاليف الاندماج الأوروبي وتطوير أنماط الإنتاج في الصناعة. أعترف أنني توقفت طويلاً أمام القرار، الذي اتخذه شولتز رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي، برفض الاستمرار في ائتلاف الحكم بقيادة ميركل والحزب الديمقراطي المسيحي، مفضلاً تولي مسؤولية المعارضة الأساسية في البرلمان.

تساءلت، وسألت خبيرة ألمانية مقيمة في القاهرة، إن كان مثل هذا القرار يمكن أن يصدر بدون التشاور مع ميركل المكلفة بتشكيل الحكومة الجديدة. أجابت بأن ميركل وشولتز في أمس الحاجة لإعادة تنظيم صفوف حزبيهما ربما أكثر من خشيتهما من وجود حزب متطرف في مقاعد المعارضة، فضلاً عن أن ميركل في ظروفها الراهنة لن تتحمل دفع ثمن تنازلات كان شولتز سيطالب بها لو دخل الحزبان في شراكة جديدة. تصورت لأطول من لحظة أن قرار عدم تشكيل حكومة ائتلافية لأول مرة منذ سنوات عنيدة تقف وراءه رغبة «قادة النظام السياسي الألماني» منع وصول نواب إلى داخل البرلمان يمثلون حزباً جديداً من خارج النظام مشكوك في نواياه ضد هذا النظام. اقتنعت، بسبب نقص حججي، بالرأي الآخر، رأي الخبيرة الألمانية. 

كانت فعلاً انتخابات مملة؛ لكن تركت لنا دلالات مهمة عن حال السياسة في المجتمعات الغربية، وحال الديمقراطية المنحسرة، وحال الصعود الملح من جانب القوى اليمينية في أوروبا خاصة. فسر بعضنا وصول ماكرون إلى الرئاسة في فرنسا بأنه ضربة قوية لليمين الأوروبي الصاعد. أخطأ أصحاب هذا الرأي؛ لأنهم تجاهلوا حقيقة أن مارين لوبين حصدت أكثر من أحد عشر مليون صوت في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة. ثم إننا لا يجوز أن نقلل من أهمية صلابة الرئيس ترامب وصموده، هو رمز صعود التيارات الشعبوية اليمينية والقومية. هو أيضاً في رأيهم يعد رمزاً ناجحاً وعزيزاً عليهم. 

في واقع الأمر لا يوجد ما يؤذن لميركل أو ماكرون أو غيرهما من قادة الوسط السياسي الأوروبي المتزايد الانكماش بأن الوضع قد يتغير قريباً لمصلحة الوسط. العكس هو الاحتمال الأقوى بالنظر إلى التعقيدات الاجتماعية، التي ما زالت تثيرها موجات العولمة، وبخاصة نقص الوظائف، إضافة إلى آثار الهجرات الإسلامية إلى أوروبا والغرب عموماً، كلها وغيرها عوامل تشير إلى احتمال أقوى بأن تزداد تعقيدات الحالة، التي تعيشها أحزاب وتيارات الوسط، هذا الوسط الذي لم يبلغ انكماشه في أي وقت وفي ألمانيا على وجه الخصوص درجة انكماشه الراهنة. 

لن تكون مهمة ميركل سهلة فالظروف والعوامل المعيقة لها، كما أشرت، كثيرة وبعضها هيكلي يمس صلب البناء السياسي والأيديولوجي للنظام الألماني. هناك اعتبارات أخرى تضيف إلى متاعب أي تشكيل حكومي تختاره ميركل لولايتها القادمة.

هناك أولاً القضية المؤجلة والمتعلقة بتحديث قواعد الإنتاج الصناعي الألماني، والتحول إلى «الترقيم» الكلي إن صح التعبير، وهو المجال الذي سبقتها إليه الصين، وتحاول اللحاق بها أو مسايرتها الولايات المتحدة. من ناحية ثانية، فقد لفت نظري أحد الاقتصاديين المراقبين للحالة الألمانية إلى احتمال أن يشهد عهد ميركل القادم إنتاج آخر سيارة ألمانية وخروجها إلى السوق العالمية على ضوء احتمال استمرار الأزمات التي ضربت هذه الصناعة خلال العقد الأخير. وهو احتمال غير مستبعد أن يتحقق على ضوء التجربة.

من ناحية ثالثة، سوف يتعين على حكومة ميركل مواجهة الحملة المعادية للهجرة بشبكة سياسات شجاعة وحاسمة ومكلفة؛ لتسريع عملية دمج مليون مهاجر في المجتمع الألماني.

سمعت في مصر وفي أكثر من دولة عربية ما يشبه الشماتة في ألمانيا والدول التي ما زالت تصر على إجراء انتخابات «ديمقراطية وحرة وشفافة». يقولون هكذا وبفضل هذا النوع من الانتخابات وصل أكثر من ثمانين نائباً يمينياً متطرفاً إلى البرلمان الألماني. ها هي ميركل تدفع ثمن حماستها للديمقراطية والانتخابات الحرة وحقوق الإنسان.