طلال صالح بنان

من أهم ملاح النظام الدولي الحالي عدم اقتصار عضويته على الدول. لقد اتسعت عضوية النظام الدولي، لتشمل الفرد، بوصفه إنسانا تنتصر لحقوقه وتطلعاته المشروعة مؤسسات وقيم النظام الدولي، أينما كان، بغض النظر عن جنسه وسنه وعرقه ودينه ولونه. جميع دول العالم أضحت ملتزمة قانونياً علناً، باحترام حقوق الإنسان، وفق اتفاقات ومعاهدات دولية جماعية أو ثنائية.. وملتزمة أكثر، باحترامها، تلك الحقوق، طبقاً لدساتيرها وقوانينها الداخلية.

إلا أن الحقيقة عن وضعية قضايا حقوق الإنسان المتميزة هذه في النظام الدولي الحالي، لا يجب أن تؤخذ على إطلاقها، فقضايا حقوق الإنسان لا تنطلق من قيمها الأخلاقية، بقدر ما تتحكم فيها اعتبارات السياسة وحساباتها. في الوقت الحاضر لا توجد دولة تجاهر علناً بخرقها لحقوق الإنسان.. أو التحريض عليها، أو تعلن صراحةً عن عدم احترامها أو التزامها بها. حتى أكثر الدول شموليةً وقمعية، لا تنفك تعلن التزامها بقضايا حقوق الإنسان.. وتجادل بأن وضعية حقوق الإنسان فيها تتجاوز كل معايير الالتزام بها في المجتمعات الأكثر تقدماً في هذا المجال!

لكن المعضلة الأساسية هنا: ليست في مسألة احترام الدول لقضايا حقوق الإنسان، بل في سوء استغلالها سياسياً. في واقع الأمر: لا يمكن، بأي حال من الأحوال، تخليص قضايا حقوق الإنسان من عوالق السياسة وملوثاتها.. أو النظر إليها، بعيداً عن غريزة الدول المتأصلة في ضمير حكوماتها ورموزها، تجاه التدخل في شؤون الدول الأخرى، الذي يجرمه القانون الدولي.. وتستهجنه قواعد التعامل الدولي المرعية.

في كثير من الدول، التي تصف نفسها سياسياً وأخلاقياً، بأنها دول متقدمة ومتحضرة، لا تتجاوز قضية حقوق الإنسان مجتمعاتها، وإن كان من الصعب القول بعدم وجود مشكلة حقوق إنسان، في تلك المجتمعات. في كل الأحوال: فإن قضايا حقوق الإنسان، في تلك المجتمعات، لم تصل بعد إلى مستوى التأثير الإيجابي على سلوك سياستها الخارجية.

كثيرٌ من دول الغرب، من أهم محددات سياستها الخارجية المعلنة: الانتصار لقضايا حقوق الإنسان في العالم. بل إن هناك قوانين داخلية توجد في هذه الدول، تتصدى لأي انتهاكات لحقوق الإنسان في الخارج. حتى إن الأمر وصل بها: تخويل جهاتها القضائية، خارج نطاق سيادتها الإقليمية، صلاحيات لملاحقة ومحاكمة ومعاقبة، أي شخصيات أو مؤسسات اعتبارية دولية يزعم تورطها في قضايا انتهاكات لحقوق الإنسان! مع ذلك نجد حكومات هذه الدول تدعم أنظمة حكم شمولية في الخارج جاءت رغماً عن إرادة شعوبها، عن طريق ثورات دموية.. أو حروب أهلية، تسببت فيها منذ البداية تلك الدول الكبرى، التي تتشدق بانتصارها لحقوق الإنسان.

تاريخ دول الغرب، في حركة السياسة الدولية، لا يسعفها في زعمها التصدي لقضايا حقوق الإنسان. دول الغرب هذه حالت بين الكثير من شعوب الأرض وكفاحها من أجل سيادتها واستقلالها. هذه الدول ما انفكت تدعم كيانات عنصرية مغتصبة لأراضي شعوب حرة، كما هو حال دعمها لإسرائيل.

بل إن هذه الدول، من أجْلِ إبراز دعمها ومساندتها لإسرائيل، نراها تنسحب من منظمات حقوقية دولية متخصصة، لمجرد نقاشها قضية الشعب الفلسطيني! وتتوقف عن مساعدة منظمات إغاثية دولية، مثل (الأونروا)، تحاول الحفاظ على حد الكفاف، ليبقى الشعب الفلسطيني حياً.. دعك عن مساعدته لمقاومة الاحتلال.. أو تمكينه من حقوقه المشروعة، غير القابلة للتصرف، في إقامة دولته المستقلة ذات السيادة، شأنه شأن شعوب العالم الحرة الأخرى.

ليس من مظاهر النفاق الدولي، في العصر الحديث، أكثر وضوحاً واستفزازاً وتحدياً، من تلك التي تتعلق بحقوق الإنسان. الدول الكبرى التي تزعم أن مجتمعاتها أكثر مجتمعات الأرض انتصاراً لحقوق الإنسان، لا تتورع عن إبداء مدى احتقارها، بل وحتى مشاركتها في انتهاكات لحقوق الإنسان، على مستوى العالم.. بل وحتى في داخل مجتمعاتها، باتباعها ممارسات عنصرية، على أسس الجنس واللون والعرق والدين، انحيازاً لبعض فئات مجتمعها على حساب الفئات الأخرى من مواطنيها.

دول الغرب أبعد من أن تزعم تفوقها الأخلاقي على بقية أمم الأرض. قضايا حقوق الإنسان لم تكن ولن تصير، من أولويات السياسة الخارجية لدول الغرب، إلا من ناحية جانب باطلها الأخلاقي، في استغلالها لتنفيذ أجندة سياستها الخارجية، في قهر الشعوب، بيدها.. أو بيد عملائها الخارجيين.

ضمير البشرية يظل بعيداً عن مواكبة حركة التاريخ، بُعْدَ عدم استلهامه للحكمة الإلهية وراء احترام كرامة الإنسان، لمجرد أنه من وَلدِ آدم عليه السلام.