أمير طاهري

ليس من شأن العاصفة التي أثيرت الأسبوع الماضي حول توقيع إيران على اتفاقية بحر قزوين التي ترعاها روسيا أن تهدأ، أو لعلها لا تهدأ، في أي وقت قريب. لكن، وبصرف النظر عما سوف يحدث، فلقد أثارت حالة من الجدل بشأن قضية واحدة ومهمة للغاية على أدنى تقدير.

تتعلق تلك القضية بآلية اتخاذ القرار على أعلى المستويات في الجمهورية الإسلامية. وقبيل انعقاد القمة في منتجع «أكتاو» الكازاخي الذي شهد التوقيع على الاتفاقية، همس الوفد المرافق للرئيس الإيراني حسن روحاني لبعض الدوائر الإعلامية الخاصة بأنه لم يكن شديد الحرص على التوقيع على الاتفاقية، وأنه ربما تعرض لمحاولة «لي الذراع» من قبل «شخصية ما» في نسق أعلى من الحكم في البلاد!

والشخصية المشار إليها في هذا السياق ليست بطبيعة الحال إلا المرشد الأعلى علي خامنئي الذي يملك، من الناحيتين الدستورية والسياسية، الكلمة العليا والأخيرة في النظام الخميني الحاكم. وفي هكذا موقف، ورغم كل شيء، فإنه قد اتخذ أيضاً ما يلزم من احتياطات كي لا يرتبط ارتباطاً شديد الوثاقة بالاتفاقية المثيرة للجدل. ونشرت وكالة «راجا نيوز» الإخبارية الإيرانية، وهي أحد المنافذ الإعلامية الخاضعة تماماً لسلطان الحرس الثوري الإيراني، مقالة افتتاحية تقدح من خلالها في التقارير الإخبارية التي أفادت بأن توقيع الرئيس الإيراني على اتفاقية بحر قزوين جاء بإشراف ومباركة من جانب خامنئي. كما وجهت المقالة الانتقادات كذلك إلى وزارة الخارجية الإيرانية، التي يسيطر في غالب الأمر الفصيل الموالي للرئيس روحاني، بانحرافها عن الجادة.

واستغل هذه المناسبة أفضل استغلال أولئك الذين يتطلعون إلى الإيقاع بالرئيس روحاني لجملة من الأسباب. ومن بينهم بعض الشخصيات من داخل حاشية الرئيس الإيراني نفسه ممن دعوه علناً إلى التنحي عن منصبه الرئاسي.

ووفق هذه الخلفية، فوجئ الكثيرون بخامنئي يصرح علناً بأنه قد أعطى الضوء الأخضر للمضي قدماً في المحادثات السرية التي أسفرت عن إبرام ما يسمى بالاتفاق النووي مع إيران الذي أشرفت عليه الولايات المتحدة ورئيسها الأسبق باراك أوباما.


وقال خامنئي في صوت متخدج ومشوب بالندم: «لقد كان خطأً فادحاً ذلك الذي ارتكبته حينها».
ويذكر البعض هناك، أن خامنئي، ولسنوات طويلة، قد واظب على النفي القاطع لأي دور محوري كان قد لعبه في هذه الملحمة السياسية الباعثة على الأسف بهدف خديعة الشعبين الإيراني والأميركي على حد سواء.

لذلك؛ ثار خلال الأسبوع الماضي تساؤل بشأن ما إذا كنا نشهد تكراراً يبعث على الضجر لمثل الكوميديا السخيفة ذاتها فيما يتعلق بنص اتفاقية بحر قزوين الذي تفرضه موسكو فرضاً على طهران.

ويشير التخمين والتقدير الهلامي للموقف إلى جانب الأدلة الظرفية المرافقة إلى خامنئي باعتباره الشخصية الوحيدة صاحبة المسؤولية عما يعتبره الكثيرون من أبناء الشعب الإيراني بأنه عملية «بيع علنية» إلى الرئيس فلاديمير بوتين.

وبادئ ذي بدء نقول، على الصعيدين القانوني والسياسي المعني، ليس هناك رئيس من رؤساء الجمهورية الإسلامية في إيران يستطيع التوقيع على اتفاقية بمثل هذا القدر من الأهمية والخطورة من دون إيماءة الموافقة والمباركة من جانب المرشد.

ثانياً، فإن الجمهورية الإسلامية، وبقدر اهتمام مؤسسة الرئاسة ووزارة الخارجية بالأمر، كانت تعارض حتى النسخ الأضعف نصاً من الاتفاقية المشار إليها.

وانتهى الأمر بمحادثات الاتفاقية المذكورة إبان عهد الرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني إلى طريق مسدود في وقت كانت روسيا الضعيفة – آنذاك – تحاول الفكاك من تداعيات الانهيار المزري والمدوي للاتحاد السوفياتي البائد؛ الأمر الذي جعل الكرملين أكثر تودداً وتساهلاً عما هو الأمر الآن تحت قيادة بوتين.

وفي تلك الأثناء، كانت كل من أذربيجان وتركمانستان، وهما من الجمهوريات المطلة على بحر قزوين، تكابدان الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الأسوأ من روسيا على الصعد كافة. وكان حتماً على أذربيجان التعامل مع انفصال مرتفعات قره باغ، وهي المنطقة التي ضمتها أرمينيا إلى سيادتها في تلك الأثناء، والإشكالات التي طرحتها تلك المعضلة من قبل شخصيات بارزة على المشهد السياسي مثل الرئيس أبو الفضل ألجي بيك. وكانت الأوضاع بالغة السوء في أذربيجان لدرجة أن ما يقرب من نصف سكان البلاد، البالغ تعدادهم نحو 5.5 مليون نسمة، اضطروا في ذلك الوقت إلى اللجوء المؤقت إلى إيران. وأنشأت إيران، في مرحلة من المراحل، سلسلة من المتاجر المتنقلة على طول الحدود كي تمكن مواطني أذربيجان من الحصول على المواد الغذائية الإيرانية في مقابل بيع الممتلكات الشخصية، والمجوهرات، وحتى أثاث منازلهم. وأقيمت متاجر متنقلة مماثلة في مدينة قميشان الإيرانية، على الطرف الحدود الشرقي مع تركمانستان بالقرب من بحر قزوين، في الوقت الذي كانت الجمهورية الآسيوية الناشئة لا تزال تعاني من الحكم السلطوي المستبد للرئيس الراحل صفر مراد نيازوف.

وتبنت طهران الرفض التام لأي حل من الحلول الوسط فيما يتعلق بمنطقة بحر قزوين في عهد الرئيس الأسبق محمد خاتمي. وخلال قمة الدول المطلة على بحر قزوين والتي عُقدت في العاصمة التركمانية عشق آباد، كانت إيران هي الدولة الوحيدة التي رفضت التسوية المقترحة برعاية موسكو. ولأنه لم يكن يملك البديل وقتذاك، تعيّن على الرئيس محمد خاتمي النزوع إلى حيلة من حيل الملالي المعروفة للفكاك من تلك الزاوية الضيقة، فلقد أعلن أنه أصيب بآلام حادة في الظهر، وأنه اضطر إلى العودة إلى بلاده على نحو عاجل لتلقي العلاج.

وقد يبدو الأمر مثيراً للدهشة، غير أن الجمهورية الإسلامية لم تتخذ موقفاً متماسكاً على الإطلاق فيما يتعلق بمنطقة بحر قزوين. واستمر موقف «الممانعة» الإيرانية في عهد الرئيس التالي محمود أحمدي نجاد.

وكان تركيز القادة في طهران منصباً على التدخلات السافرة في شؤون فلسطين، ولبنان، وسوريا، والعراق، والبحرين، واليمن بأكثر من اهتمامهم بتحديد وإنجاز المصالح الوطنية الإيرانية في منطقة بحر قزوين.

وبعد سنوات من الدبلوماسية «المكوكية»، قررت كل من روسيا، وكازاخستان، وتركمانستان، وأذربيجان تجاهل إيران تماماً والمضي قدماً في تأمين المصالح الوطنية الحيوية التي تمسّ الدول المطلة على بحر قزوين كما لو أن إيران غير موجودة على خريطة تلك المنطقة بالأساس. ووقّعت الدول المعنية تعاقدات الطاقة مع شركات غربية عملاقة، وشهدت عقدين من النمو الاقتصادي السريع الذي لم تشهد إيران مثله في تلك الفترة.

ووفق سياسة تجاهل الجمهورية الإسلامية المعتمدة لدى هذه الدول، وقعت الدول الأربع المطلة على بحر قزوين على اتفاقيات ثنائية وأخرى متعددة الأطراف فيما بينها تغطي مساحة تقدر بنحو 87 في المائة من سطح بحر قزوين، لتترك إيران منعزلة داخل نسبة 13 في المائة المتبقية من مياهها الإقليمية المطلة على البحر.

وطرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نص الاتفاقية المعنية للمرة الأولى على المرشد خامنئي في زيارة خاطفة إلى طهران عام 2015.

ووافق الزعيمان على إنشاء قناة اتصال مباشرة فيما بين الحكومتين بشأن الأمر؛ مما يعني محاولة لتجاوز العراقيل البيروقراطية في موسكو وطهران. وفي هذه الزيارة لم يُكلف الرئيس الروسي نفسه عناء الزيارة الودية لمقر رئاسة الجمهورية. ومنذ ذلك الحين اعتمد خامنئي على مستشاره الخاص لملفات السياسة الخارجية علي أكبر ولايتي وقائد «فيلق القدس» قاسم سليماني في إرسال واستقبال الرسائل المهمة من الرئيس بوتين، متجاوزاً في ذلك الرئيس روحاني ووزارة خارجيته على نحو كلي.
وتوصف اتفاقية بحر قزوين بأنها الوصفة التي أعدها بوتين بنفسه وعمل خامنئي على إعداد توابلها وليس على روحاني سوى تقديمها!
ووفق الاتفاقية، سوف تبتلع إيران راغمة الاتفاقيات الثنائية ومتعددة الأطراف التي وقّعت عليها الدول الأخرى المطلة على بحر قزوين منذ سقوط الإمبراطورية السوفياتية وحتى اليوم. كما تتنازل إيران أيضاً، عن ادعاءاتها التقليدية بحقوق السيادة المشتركة مع روسيا فيما يخص ثلاثاً من الجمهوريات السوفياتية السابقة التي تشكل فيما بينها نصف النظام القائم في المنطقة باعتبارهم الخلفاء المشتركين للنظام السوفياتي السابق.

ويكمن الهدف الرئيسي من تلك الاتفاقية في تحويل بحر قزوين إلى بحيرة روسية خالصة السيادة.

ومع مقارنة الوجود العسكري الإيراني في بحر قزوين، والمتمثل فيما مجموعه 11 قارباً من قوارب الدوريات الساحلية، مقابل الوجود البحري العسكري الروسي الهائل هناك، ناهيكم عن ذكر 22 قاعدة بحرية روسية على طول الشريط الساحلي، فسوف يكون من الواضح تماماً لكل ذي لب من المستفيد الأول والأكبر من اتفاقية «الساحة الخلفية البحرية» تلك.

وأي فضل فيما يتعلق باتفاقية بحر قزوين فسوف يُنسب على نحو مباشر إلى الزعيمين بوتين وخامنئي، وليس إلى الرئيس روحاني بحال. فهل سوف نرى خامنئي يقرّ في غضون سنوات ثلاث بخطئه مجدداً فيما يتعلق باتفاقية بحر قزوين مع الاتحاد الروسي تماماً مثلما فعل في أمر الاتفاق النووي الإيراني مع الولايات المتحدة؟
&