عبد الله الردادي

الاقتصاد التركي على المحك، هذا ما يبدو أمام المتابع للشأن الاقتصادي التركي في هذه الأيام، وعلى الرغم من أن كثيراً من البلدان حول العالم تمر بأزمات اقتصادية، فإن الأزمة التركية تميزت بمزيج من عدة مشكلات، جعل هذه الأزمة تبدو عصيّة... الأزمة التركية الحالية ليست وليدة اللحظة، ولا يصح أن تعزى برمتها إلى الخلافات السياسية التركية مع الولايات المتحدة، بل هي أقرب إلى أنها نتيجة تراكمية لسياسات الإدارة التركية الاقتصادية في السنوات الأخيرة.

وأساس هذه الأزمة هو العجز الكبير في الاقتصاد التركي، هذا الفارق بين واردات تركيا وصادراتها يتوقع أن يصل هذا العام إلى 49 مليار دولار، بعد أن كان 32 مليار دولار في عام 2015. ومقارنة بمثيلاتها من دول الأسواق الناشئة، فإن الهند هي الدولة الوحيدة التي قد يزيد عجزها على هذا الرقم في عام 2018، ولكن مع الأخذ بالاعتبار أن حجم الاقتصاد الهندي يزيد على مثيله التركي بثلاثة أضعاف!

وفي سابق السنوات، عوضت تركيا هذه العجوزات الضخمة بالاستدانة، حتى وصل حجم الدين التركي إلى 11 في المائة من ناتجها القومي، وبما أن هذه الديون كانت بعملات أجنبية (بالدولار واليورو)، فإن انخفاض الليرة التركية كان ضربة موجعة للاقتصاد التركي، خصوصا مع ارتفاع قيمة الدولار في الآونة الأخيرة. وفي حال استمر هذا الانخفاض في الليرة (بلغ 34 في المائة هذا الأسبوع فقط)، فإن سداد هذه الديون يزيد صعوبة على الاقتصاد التركي. وبسبب هذه التداعيات، فإن التضخم في تركيا في ارتفاع مستمر، ويتوقع أن يصل التضخم هذا العام إلى 11 في المائة، وهو ضعف الرقم في بقية دول الأسواق الناشئة؛ باستثناء الأرجنتين.

هذا هي الحال في تركيا في الوقت الراهن، وأسباب الوصول لهذه الحال مختلفة بحسب وجهات النظر والميول بكل تأكيد، ولكن أحد الأسباب المثبتة بالأرقام هو سياسة الرئيس التركي مؤخرا حيال اقتصاد بلاده، فيبدو أن الرئيس التركي له فلسفة اقتصادية خاصة قد لا يلتزم بها إلا من يواليه ولاء مطلقا، حتى إنه وبعد التصويت الدستوري بمنحه صلاحيات استثنائية، كان من أول قراراته إبعاد وزير المالية السابق، وتعيين صهره برات ألبيراق بديلا له، بعد هذا القرار الذي جاء قبل ما يزيد على الشهر بقليل، انخفضت العملة التركية بنسبة 3.8 في المائة في يوم واحد. وهو دلالة واضحة على ضعف ثقة المستثمرين بسياسة «الرجل الواحد» في تركيا، وفي سياسة الرئيس التركي الاقتصادية.

ومما زاد الطين بلة، ما صرح به الرئيس الأميركي بفرض رسوم مضاعفة على الواردات التركية لأميركا، لتصل الرسوم على الصلب إلى 50 في المائة، وعلى الألمنيوم 20 في المائة. ويبدو أن هذه التصريحات الأميركية زادت ذعر المستثمرين بإمكانية اشتعال حرب اقتصادية على تركيا، وإن كانت بعض دول العالم تستطيع الصمود أمام الضغوطات الأميركية مثل روسيا المستندة إلى نفطها أو الصين المستندة إلى صناعاتها أو الاتحاد الأوروبي المدعوم بتحالفاته، فإن تركيا لا تمتلك نقاط قوة مثل هذه.

وعلى الرغم من ذلك، فإن الرئيس التركي صرح بأنه سيلتفت لحلفائه من غير الغرب، لكن الدلائل تشير إلى أن روسيا مشغولة بالتأقلم مع العقوبات الأميركية المفروضة عليها، والصين ليست من الدول التي تقدم الدعم بشكل مادي، بل تفضل تقديمه على شكل مشروعات مشتركة، وإيران كذلك غارقة في أزمة اقتصادية. وحتى الدعم القطري البالغ 15 مليار دولار والمقدم مؤخرا على شكل استثمارات مباشرة في تركيا، فإن قيمته قد لا تساعد كثيرا في حل الأزمة التركية الكبيرة؛ بل إن هذا الدعم مؤشر آخر على أن الرئيس التركي ما زال مصرّاً على حل الأزمة الاقتصادية بسياسته الحالية نفسها ودون دعم دولي مشترك ودون تدخل صندوق النقد الدولي، وهو ما لا يطمئن المستثمرين الذين يرون أنه لا يريد تصحيح سياساته السابقة التي أودت بالاقتصاد التركي وأوصلته إلى ما هو عليه الآن.

ويبدو الهاجس الآن في انتقال عدوى هذه الأزمة لدول أخرى ذات أسواق ناشئة، مثل المكسيك وجنوب أفريقيا وإندونيسيا. ففي إعلان الميزانية الأخيرة، صرح الرئيس الإندونيسي بأن على دولته التعقل في ميزانيتها العامة حتى لا يحدث لدولته ما حصل لتركيا، وأبدى رغبته في حماية اقتصاد بلده من التأثيرات الاقتصادية المحيطة. وصرحت وزيرة المالية الإندونيسية بأن على دولتها الاحتياط من التغيرات الدولية الحاصلة، موضحة أنه «لا يمكن التنبؤ بما يغرد به الرئيس الأميركي ترمب»، في إشارة واضحة إلى تأثير الموقف الأميركي على الأزمة التركية... إلا إن التأثير التركي على دول الأسواق الناشئة قد لا يكون كبيرا لأسباب كثيرة، منها أن حجم الاقتصاد التركي لا يشكل أكثر من واحد في المائة من الاقتصاد العالمي، مما يعني أن التأثير - إن حصل - قد لا يكون إلا تأثيرا معنويا. كذلك فإن الأزمة التركية لا تبدو مستحيلة الحل في الوقت الحالي.

ولعل صندوق النقد الدولي هو المخرج الوحيد لتركيا للخروج من هذه الأزمة، ولكن شروط الصندوق قد لا تلقى قبولا من الإدارة التركية، فهو يطلب استجابة كاملة من الدولة المدعومة لتنفيذ جميع الاقتراحات الاقتصادية المقدمة إليه، مثل أن ترفع نسبة الفائدة في تركيا مثلا، وهو الإجراء الذي سبق للرئيس التركي أن وصفه بـ«الشرير». ولو كان الرئيس التركي على استعداد لتقبل اقتراحات لا تناسب سياسته، لكان استجاب لرئيس المالية السابق الذي استبدل صهره به.&

إضافة إلى ذلك، فإن الرئيس التركي سبق، وفي أكثر من مناسبة، أن أوضح كراهيته صندوق النقد، وطلبُ مساعدة الصندوق في الوقت الحالي قد يؤثر سلبا على شعبية الرئيس التركي في انتخابات شهر مارس (آذار) المقبل. ولكن كثيرا من الدلائل تشير إلى أن صندوق النقد «مخرج حتمي» لتركيا للخروج من هذه الأزمة، وهو الذي سبق له في شهر مايو (أيار) الماضي إخراج الأرجنتين من أزمتها الاقتصادية بضخ 50 مليار دولار في اقتصادها. وهو إجراء قريب مما تحتاج له تركيا في الوقت الحالي، في حال تنازلت الرئاسة التركية عن موقفها الحالي بوجود مؤامرة تحاك ضدها.
&