دخلت التعريفات الجمركية الأمريكية التى تمت مضاعفاتها على وارداتها من الألومنيوم والصلب القادمة من تركيا حيز التنفيذ بنسبة 20 % و50 % على الترتيب، وطبيعى أن يتبع التطبيق، رغم أنه معروف مسبقا، اهتزاز جديد لليرة المنهارة أصلا، وهذا ما حدث لتتعمق الأزمة التى لا يبدو أن لها حلا فى الأفق القريب، يعزز ذلك أن الرئيس رجب طيب أردوغان الذى بات يملك لوحده صناعة القرار بعد إقرار نظامه الرئاسى بصلاحياته غير المحدودة، لا يزال يتحدث عن مؤامرة تستهدف اقتصاد بلاده، وجائز أن يكون هناك من يضارب على عملته متعمدا، لكنه يتناسى جملة من الممارسات التى أنتهجها خلال السنوات الماضية وأدت إلى ما تعانيه البلاد الآن، ويكفى أنه ما من مرة وتحدث إلا وأعقبه ارتفاع جديد للدولار وتراجع ليرته.

إذن ووفقا لأصوات مستقلة فالمعضلة الحالية ليست فى قضية القس الأمريكى أندرو برانسون المحتجز قيد الإقامة الجبرية لصلاته بمنظمات إرهابية بحسب السلطات الرسمية فى أنقرة، وإن كان أحد أسبابها لاريب، وانما تتعلق فى الجوهر بسياسات حكومة العدالة والتنمية الداخلية والخارجية معا.

هؤلاء دللوا على ذلك بمئات الأنشطة التى أعلنت إفلاسها، فمنذ يناير العام قبل الماضى وحتى نهاية يونيو 2018، أغلق نحو 20 ألفا و600 محل تجارى، كما شهدت فروع البنوك انخفاضا حادا خلال تلك الفترة إذ أغلق 400 فرع بعموم البلاد ومنها 133 خلال الشهور السبعة الماضية وهناك العشرات من المحال ومعها الأفرع المصرفية فى طريقها لتحذو حذو سابقاتها.

أيضا أشاروا إلى أن الليرة ومنذ بدايات 2017، تشهد سلسلة انخفاضات، الانخفاض تلو الآخر، ومع نهاية ذلك العام فقدت 25 % من قيمتها، وها هى تفقد نحو 50 % خلال السنة الحالية منها 20 % فقط فقدتها أمس الجمعة وبحسبة بسيطة للغاية ــ أضافت الصحيفة ــ فقد فقدت الليرة 75 % خلال أقل من 20 شهرا. كما أن العديد من الشركات توقفت بالفعل عن سداد مديونياتها نظرا لتفاقم أزمة الليرة.

وردا على سؤال متى سيتوقف تراجعها المخيف ؟ أكدوا أنه لا أحد من صناع القرار وكذا السياسيين يمكنه الإجابة عليه، لأنهم لا يعرفون على وجه الدقة متى سيتوقف نزيف عملتهم أمام العملات الأجنبية؟ فليس هناك من «يستطيع التنبؤ بمستقبل هذا البلد لا أقول فى ستة أشهر، بل فى الأشهر الثلاثة المقبلة، حتى البنك المركزى نفسه لا يمكنه ذلك».

فى المقابل حاولت وزارة الخزانة والمالية فى ثوبها الجديد» - الذى لا يبدو أنه ثوب قشيب - بعد أن تولاها صهر الرئيس، أن تعطى قدرا من التفاؤل وقالت فى بيان، إن النظام المصرفى للبلاد فى وضع يمكنه إدارة التقلبات المالية بشكل فعال من خلال هيكلته المالية المتينة وميزانيته وتوقعت نمو اقتصاد تركيا بين 3 و 4% خلال 2019، واستقرار عجز الحساب الجارى عند حوالى 4 %. لكن الحاصل لا يعكس تلك الصورة الوردية إذ اعتبر البعض أن هذا الانهيار السريع واليومى يعد ضربة قاسية، فى الوقت الذى يلجأ فيه الرئيس التركى رجب طيب أردوغان إلى الحديث بطريقة عاطفية شعاراتية، ويكرر الأدعية، ما يؤكد للمستثمرين والمراقبين أن اقتصاد البلاد يمضى فى تخبط منقطع النظير، ويفتقر إلى التخطيط والتنظيم».

فقبل أيام وفى ظل طموحات بدت وكأنها تلامس عنان السماء تبشر بـ «المعجزات الاقتصادية فى تركيا الجديدة» وسط تأييد مذهل من إعلامه، صرح أردوغان أنه سينفذ ألف مشروع؛ منها 400 مشروع على درجة كبيرة من الأهمية، وذلك فى مدة لن تتجاوز المائة يوم، وأن الدولة ستنفق من أجل هذه المشروعات ما يعادل 46 مليار ليرة تركية.

يأتى هذا فى الوقت الذى تحدث بيرات البيراك وزير المالية والخزانة كثيراً عن التقشف، ومن ثم فالسؤال المنطقى الذى طٌرح « فكيف يمكن تنفيذ خطته المالية المتوسطة الأجل التى أعلنها هو نفسه، بالتوازى مع تدشين مشاريع عملاقة تقوم أساسا على الإنفاق وهو ما يصطدم مع أى برنامج إصلاح مالى حذر ومنضبط»؟.

وفى سيناريو نٌعت «أنه جانح للخيال» حاول الرئيس «إيهام نفسه قبل إيهام الرأى العام بأنه ابتكر حلا للكارثة التى حلت بالليرة وهو أن بلاده مستعدة لاستخدام العملات المحلية مع دول أخرى «إذا كانت تريد الخروج من قبضة الدولار»، المفارقة أنه وجه نداءه هذا إلى دول أوروبية هى أصلا ليست فى وارد التعاطى معه بسبب خلافات متراكمة».

ومع نغمة البحث عن بدائل وحلفاء آخرين والتى تعاظمت بعد وقت قصير من إعلان ترامب عن زيادة الرسوم الجمركية، كشفت الرئاسة التركية «فى رسالة مبطنة»، أن أردوغان أجرى مكالمة هاتفية مع نظيره الروسى فلاديمير بوتين، مشيرة إلى أنهما بحثا بصورة خاصة المبادلات التجارية بين البلدين الأمر ذاته سيمتد ليشمل الصين والهند واليابان.

غير أن خبراء اقتصاد لا يصنفوا فى خانة المعارضين أكدوا أن البدائل ليست عملية، فالاقتصاد التركى مرتبط عضويا بالمنظومة الغربية الأوروبية والأمريكية والانفكاك أمامه يستغرق سنوات وفى النهاية لن يؤدى إلى نتائج تفيد بل العكس قد تفضى إلى ما هو أسوأ. ومع توقعات المستثمرين بـ « انهيار حتمى لاقتصاد سيئ الإدارة واحتمال وصول التضخم إلى 20 %»، طبيعى أن تكثر الشائعات والتقارير الإعلامية غير الدقيقة أقربها ما تردد السبت بأن معظم البنوك التركية فى طريقها إلى إلغاء بيع وشراء الدولار عبر الإنترنت لتجنب خسائر وصفت بالفادحة أو أنها ستضع سقفا لعمليات السحب».

صحيح أن الشواهد قد تبدو قاتمة، إلا أن هناك طرقا لكسر هذه الحلقة المفرغة ولكن ذلك يتطلب تغييرات أساسية فى نهج الحكومة، فى مقدمتها فصل حقيقى بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وأن يكون البنك المركزى مؤسسة مستقلة ليس اسما بل فعلا وتحويل العبء على الضرائب غير المباشرة إلى ضرائب مباشرة لتحقيق العدالة فى النظام الضريبى والشفافية والإشراف الكامل على كل الإنفاق العام والعائدات»، غير أن هذا يبدو مستحيلا فى ظل حكم الرجل الواحد، وما دامت تركيا ليست دولة يحكمها القانون، فإن السقوط الحر لليرة ليس له نهاية.

وهكذا وأمام هذا الوضع المأساوى وعدم وضوح السياسة النقدية والاقتصادية لأردوغان، وصهره وزير المالية بيرات ألبيراك، لايستبعد مراقبون أن يصبح الوزير- النسيب ــ أول ضحايا العهد الرئاسى الجديد لأردوغان، إذ سيتطلب التدخل الخارجى فى حال جرى متمثلا فى صندوق النقد الدولى فحتما ستكون هناك شروط سياسية، منها استبعاد المسئولين عن التردى المالى الأخير، أسوة بما حدث فى اليونان وإيطاليا وإسبانيا من قبل».