&عبدالله السعدون

أفضل القادة والقضاة والمعلمين ومديري الشركات هم المثقفون الذين لديهم فكر مرن وإنساني مؤطر بمبادئ التسامح والقبول، ولديهم القدرة على مشاركة المجتمع والإنسانية همومها وتحدياتها، يستمتع بما تنتجه الحضارة من فنون وإنجازات بعيداً عن التقوقع والانغلاق..

درجت الجامعات العالمية المتميزة على دعوة شخصية بارزة لتكون المتحدث إلى الطلبة الخريجين وليكون مسك الختام وقبل الانطلاق إلى الحياة العملية وبعد جهد استمر قرابة الربع قرن امتد من الطفولة حتى الشباب. وفي إحدى هذه المناسبات المهمة بدأ المتحدث حديثه بالسؤال التالي: هل أنت مثقف؟ ثم أضاف: أن تحمل شهادة عليا لا تجعلك مثقفاً، أن تصبح أستاذاً في الجامعة لا تجعلك مثقفاً، أن تصبح باحثاً في مركز أبحاث علمي لا يجعلك مثقفاً، يوجد أطباء لا يتقنون علاج المرضى كما يوجد رجال دين لا يعرفون الكثير عن الله، لستَ بحاجة إلى شهادة دكتوراة حتى تنضم إلى كتيبة المثقفين أو ما يسمى (الأكاديمية الفكرية)، هذه الأكاديمية تشمل كل من يرغب الانتساب لها ولا تشترط شهادة معينة، فمنتسبيها من جميع الناس ومن خلفيات مختلفة، منهم من لديه شهادة دبلوم فقط، ومنهم المساجين والمشردون والفقراء. في هذه الأكاديمية الفكرية حين أقول مثقف فأنا لا أعني ذلك الشخص الذي لديه ثروة من المعلومات، ولا أقيس ذكاء الشخص بمقدار ما يعرف، كم تعرف ليس له علاقة بمدى ثقافتك.

أعرف الشخص المثقف ويعرفه غيري بأنه ذلك الشخص الذي لديه رغبة عارمة في المعرفة.

المثقفون لديهم قدرة هائلة لتغيير آرائهم حين يتبين لهم ما هو أفضل، لديهم المقدرة على التأمل والنقد الذاتي، لديهم اهتمام خاص مستغرق وهو البحث عن الحقيقة وكشفها.

كم منكم لديه العقل المفتوح على مصراعيه للأفكار الجديدة؟

كم منكم لديه الاستعداد للنظر بشكل مختلف للعالم الذي حولنا وبنظرة جديدة مختلفة؟ كم منكم من ينتقد أفكاره كما ينتقد أفكار الآخرين؟ المثقف يغير مفاهيمه باستمرار كما يغير البدو الرحل أماكنهم باستمرار بحثاً عن الكلأ.

هل تلاحظون هذه القدرات الهائلة لتنمية الجسم وتقوية العضلات وتحقيق الأرقام القياسية حين يعتنى بالجسم وتنمية عضلات قوية محل عضلاته السابقة الضعيفة، وهكذا المثقف فهو شخص ينمي عقله بالبحث المستمر عن الأفكار الجديدة لتحل محل الأفكار القديمة، أفكار تفتح له آفاقاً جديدة لا تفتح إلا لمن يصرّ على مواصلة الجهد والتفكير المستغرق والخيال الجامح.

وقد أنهى محاضرته بالسؤال الذي بدأه: هل أنت مثقف؟

مشكلة التعليم والحصول على الشهادات العليا بشكل خاص أنه يوهمنا أننا قد تحصلنا على ما يكفي من المعلومات لأداء ما يناط بنا من أعمال بعد التخرج، والأخطر من ذلك حين يتدرج الشخص في المناصب المدنية أو العسكرية حتى يصبح بمرتبة أو رتبة عسكرية عالية دون أن يكتسب القدرة على التفكير الناقد والقدرة على تغيير رأيه حين يتضح له عكس ذلك، فالشهادة والخبرة المتراكمة والتي هي في الحقيقة إعادة وتكرار للسنوات الأولى أوهمته أنه ليس بحاجة إلى المزيد من البحث والقراءة أو الاستعانة بالمختصين.

أفضل القادة والقضاة والمعلمين ومديري الشركات هم المثقفون الذين لديهم فكر مرن وإنساني مؤطر بمبادئ التسامح والقبول، ولديهم القدرة على مشاركة المجتمع والإنسانية همومها وتحدياتها، يستمتع بما تنتجه الحضارة من فنون وإنجازات بعيداً عن التقوقع والانغلاق.

كل ذلك يدعونا إلى إعادة النظر في المناهج وطريقة إعداد المعلمين بحيث تصبح وسائل تنمية الفكر كالقراءة الحرة التي تفتح للقارئ آفاقاً واسعة وتحظه على التفكير في أمور لم تخطر له على بال، القراءة من أهم الصفات المكتسبة التي يستعين بها المسؤول على مواجهة المستجدات المتسارعة في الحياة، حب القراءة من أهم مبادئ تنمية الفكر لكنها بحاجة إلى بداية مبكرة تبدأ من البيت ومن السنة الأولى من عمر الطفل كما يشير إلى ذلك المختصون في عالم القراءة.

ومن الممارسات التي تعزز إيجاد عدد أكبر من المثقفين ممارسة الحوار والتفكير الناقد والتفكير الخلاق ضمن المناهج.

وفي النهاية علينا أن نقتنع أن القلة فقط هم الذين يمكن أن يطلق عليهم مثقفون لديهم المرونة والقدرة على التفكير والبحث المستمر عن الجديد والجيد وتغيير الآراء حسب ما يبدو لهم، أما البقية فيبدون آرائهم ويكررون آراء الآخرين وما تعلموه في مختلف مراحل حياتهم وخاصة مرحلة الطفولة، لديهم قناعات تبرمجوا بها وأصبحت راسخة في أدمغتهم يتعصبون لها تعصباً أعمى مهما بدت غير معقولة أو ذات فائدة.