& صدقة يحيى فاضل

ذكرنا، وفي مقالات عدة سابقة، أن المنطقة العربية، أو أغلبها على الأصح، هي الآن، مع كل الأسف، أكثر مناطق العالم اضطرابا وعدم استقرار. ووضحنا أهم «أسباب» ما المنطقة فيه من عناء مفزع، ومرض مزمن. وبينا أن تلك الأسباب هي في الواقع، أسباب ونتائج في ذات الوقت، فالأسباب تنتج عنها أوضاع يمكن اعتبارها أسبابا أيضا للواقع المر الذي نشير إليه هنا. وعند إمعان النظر في هذه الأسباب، نجد أن الوضع السياسي - الإداري الداخلي في أغلب بلدان هذه المنطقة هو أهم الأسباب.. باعتبار أن عبره تأتي الكثير من المسببات والتبعات الأخرى. وهذا المسبب هو الأصعب والأشرس. ويصبح بدون إقامة نظام سياسي سليم ونزيه في غالبية هذه الدول المبتلاة بعدم الاستقرار والاضطراب نتيجة فساد سياستها أصلا، لن يكون هناك شفاء وخلاص، ويصبح دون تلك الدول والاستقرار الحقيقي خرط القتاد.

هذه الدول هي في أمس الحاجة إلى النجدة والعلاج. وكما نعرف، فإن معظم الإصلاحات التي يشهدها التاريخ الإنساني تأتي غالبا على يد قلة مصلحة، قوية ومتنفذة، تفرض الإصلاح السياسي الضروري والسليم، الهادف إلى تحقيق المصلحة العامة للبلاد المعنية، البعيد عن أي أهداف خاصة. القلة المصلحة المطلوبة هي القلة التي لا «تصلح» كي تتربع على السلطة، وإنما تعمل لضمان سير البلد المعني وفق هدي مؤسساتي صلب.. يضمن الحرية والعدالة والمساواة لشعوب البلاد المضطربة والاستقرار الحقيقي لبلادهم. ومن المؤسف أن وجود هذه القلة نادر.. ندرة لبن العصفور، سواء في هذه المنطقة أو في غيرها.

****

ولا شك أن هناك «خطة» غربية كبرى، أو سياسة سلبية غربية قديمة - جديدة، تجاه العالمين العربي والإسلامي - باعتبارهما من العالم النامي الجنوبي، وحسابهما على دين.. معاد للغرب وقيمه - كما يعتقدون هم في الغرب، على الأقل. إن هذه الخطة (السياسة) هي عبارة عن: «أهداف» شبه ثابتة، يسعى الغرب المتنفذ لتحقيقها في معظم الوطن العربي، و«وسائل»، تستخدم لتحقيق هذه الأهداف.

بعضهم يعتبرون «الإسلام»، الآن، تهديدا كبيرا لدينهم (المسيحي) ولقيمهم الحضارية الأساسية. وقد قدم المتطرفون «الإسلامويون» للغرب «ذرائع».. لشن حروبه المعروفة، وآخرها ما يسميه بـ«الحرب اللانهائية على الإرهاب».. كما أن بالمنطقة العربية إمكانات وموارد يسيل لها لعاب الطامعين، وأولها: الثروة النفطية الهائلة. وتتلخص الأهداف الغربية المذكورة في: محاولة استغلال المنطقة وإخضاعها لنفوذ الغرب الأقوى - الدائم. وعبر وسيلة «الهيمنة السياسية» غير المباشرة، والتمزيق والإضعاف، يتم هذا الاستغلال، وتتم هذه الهيمنة، ويتم ضمان بقاء ورفاه إسرائيل، كهدف ووسيلة في آن واحد، وتسيير الأمور في المنطقة على النحو الذي يذلل إمكاناتها للطامعين..

ومع ذلك، فإن المسبب الذاتي يظل هو الأقوى تأثيرا والأفدح خطرا. والمسببان الداخلي والخارجي مترابطان، ومتداخلان أشد التداخل، كما سبق أن أشرنا. وهذه العلاقة الوثيقة تؤكد بأنه: لولا «المسبب الذاتي» ما وجد واستشرى «المسبب الخارجي».. ولولا «المسبب الخارجي» ما كان «المسبب الذاتي» مستتباً ومتمكناً بالقوة التي هو عليها منذ عقود.

****

إن أهم «مؤشرات» ذلك العناء المضاعف الذي تعاني منه أغلب أنحاء المنطقة (والذي ينتج عن هذه المسببات) هو: تعثر وبطء التنمية الشاملة المستدامة داخليا، وتراجع معدلات النمو الاقتصادي بخاصة، واستحكام حلقة «الفقر - الجهل - المرض» في هذه الأنحاء، رغم ما تحظى به من موارد وإمكانات.. كانت ستجعل منها بلدانا مزدهرة. إضافة إلى هشاشة الوضع السياسي والأمني، والضعف في الساحة الدولية، والمعاناة من عدم الاستقرار، والقابلية للتشرذم والانهيار. هذا إضافة إلى غياب أي تطبيق يذكر للمبادئ الخمسة المبجلة عالميا وإنسانيا، وهي: الحرية، العدالة، المساواة، المشاركة، التكافل الاجتماعي. فلعل أغلب أرجاء هذه المنطقة - بصفة عامة - هي من أكثر مناطق العالم حرمانا من تفعيل وتطبيق هذه المبادئ... والتمتع بما ينجم عن ذلك التطبيق من خير وراحة واطمئنان واستقرار. لكل ذلك، لا يجب أن يستغرب هذا الاضطراب الملحوظ المزمن الذي يسود معظم أرجاء هذه المنطقة البائسة، والذي نتوقع أن يستمر.. طالما استمرت أسبابه.