& رضوان السيد&

توفّي قبل أيام المفكر الفرنسي من أصل مصري، سمير أمين. وكنا قد عرفناه في الوقت نفسه مع إدوارد سعيد خلال السبعينات. لكنّ سمير أمين استهوى المهتمين بالاقتصاد، في حين انصرف أكثرنا لمتابعة ثقافيات إدوارد سعيد. بدت أعمال إدوارد سعيد في نقد الخطاب الاستعماري ( في مثل: الاستشراق، وتغطية الإسلام، والثقافة والإمبريالية) أكثر مساساً بحساسياتنا الثقافية والدينية؛ في حين رأى زملاؤنا الأكبر سناً من اليسار الجديد أنّ مقاربات سمير أمين وغوندر فرانك وأمثالهما هي الأكثر فائدة. فهذا التيار النقدي يعمل لصالح أيديولوجيا ثالثة بشأن الموقف من الرأسمالية، غير الأيديولوجيا الرأسمالية السائدة بالطبع، وغير الأيديولوجيا التقليدية للاتحاد السوفييتي وحلفائه. وقد اعتقد كثيرون أنّ الصين الخارجة من تحت ظلال دول حلف وارسو، وجدت الطريق الأكثر ثوريةً لشعوب ودول ما كان يُعرف بالعالم الثالث. وزاد الإغراء في هذه المحاولة أنّ الصين قرنت إجراءاتها الراديكالية وقتها بثورةٍ ثقافيةٍ، فبدأ الثوران الصيني غير العادي للماركسيين أصلاً أكثر شمولاً وإقناعاً. فقد صدر كتاب سمير أمين الشهير في السبعينات والمسمَّى : التراكم على الصعيد العالمي، في ترجمةٍ عربيةٍ سقيمة، لكنها حظيت لدى القراء العرب بشعبيةٍ هائلة. وذلك بسبب "الفهم الجديد"، الذي طرحه سمير أمين وزملاؤه لطرائق الكفاح من الهوامش باتجاه المركز، الذي وقع فيه الأميركيون والروس على حدٍ سواء! ومع أنّ الصين في التسعينات كانت قد تغيرت تغيراً هائلاً باتجاهاتٍ ما حلم بها نقّاد خطاب المركز الاستعماري؛ فإنّ أحداً من أنصار الصين الألمان والفرنسيين والعرب ما غادر الغرامَ بها. بل على العكس، إذ اعتبر هؤلاء أنّ نقدهم للاتحاد السوفييتي كان محقاً بدليل انهياره، بينما صمدت الصين على طريق الاشتراكية، وحققت نمواً هائلاً. والواقع أنّه لم يلتفت الجميع ليس للأمانة للاشتراكية، بل سياسات الصين التنموية الكبيرة، والتي كانت تقوم بها الدولة الصينية المركزية وما تزال.&


إدوارد سعيد اعتبر الخطابات التي صنعها الاستشراق، وصنعتها الأنثروبولوجيا، خطابات استعمارية. وهي استعمارية في معارفها وتصوراتها تجاه العرب والإسلام والمسلمين. وهو وسّع الدائرة في كتابه: الثقافة والإمبريالية، بحيث عرفنا أنّ ما جرى على العرب والمسلمين، جرى مثله على الصين والهند من جانب "علوم" تخصصت بهما. إنما لماذا نجحت تلك الخطابات في شيطنة العرب والمسلمين، ولم تنجح مع الصينيين والهنود؟ هذا هو الإشكال الذي واجه نُقّاد الخطاب الاستعماري، وما وجدوا له حلاً؛ رغم تشديد عبد الوهاب المسيري على أنّ الفهم والتعليل قد حصل.


لقد نبَّه إلى الفرق أو الفارق سمير أمين عندما أدخل هو وأنور عبد الملك الدولة القومية أو الوطنية في الاعتبار. فالصين نظام شديد المركزية وقد نهض أو تغير بحيث أتاح هذا النمو الكبير. والهند نظام فيدرالي المركزيةُ فيه ضعيفة، لكنه نهض أيضاً، كما نهضت البرازيل، مع أنه مختلفٌ في الطبيعة والإدارة عن النظام الصيني! فالسبب إذن ليس النظام الاقتصادي السائد في النظام، بل قوة الدولة الوطنية أو القومية، وسياساتها بعيدة المدى. ففي الصين كما في الهند، اتجاهٌ غلاَّب للتعامل مع الولايات المتحدة، أي باتجاه اقتصادات التراكم، ودخولٌ متسارعٌ في عصر الثورة التكنولوجية الرابعة. فالدولة الوطنية أو القومية يمكن أن تنجح بالقرارات الصحيحة بعيدة المدى، حتى لو لم يكن الاقتصاد موجَّهاً كما في الهند، وبخلاف الصين. ويضرب باحثو نقد الخطاب (الاقتصادي) المَثَل بكلٍ من الجزائر وتركيا؛ وفي التسعينات أيضاً، أي زمن النهوض الصيني والهندي. إذ ما كانت المشكلة في النظام في البلدين، بل كانت وما تزال في سياسات الدول الوطنية البعيدة المدى. وهي سياساتٌ ما كانت مستقرةً في وجهةٍ معينةٍ لدى العديد من الدول والبلدان إضافةً لتركيا والجزائر. لقد أردتُ الكتابة عن إدوارد سعيد، لكنني كتبتُ في الحقيقة عن سمير أمين. بيد أن سعيداً يستحق الاعتبار والاحترام أيضاً. إذ اعتبر أنّ هذه الضغوط المسلَّطة على العرب والإسلام والمسلمين، ستستجلب ردود فعلٍ شاملة، وهو الأمر الذي حصل مع الثوران الذي نال من أطراف العالم جميعاً، والذي اعتبر هنتنغتون أنه يمتلك حدوداً دموية!


سمير أمين لم يأبه كثيراً للعوامل الثقافية، رغم اهتمامه بقوتها الرمزية. ولذلك رأى في الدولة الوطنية أو القومية المتغيِّر الذي يستحق المتابعة في أفريقيا وآسيا. بينما كان إدوارد سعيد(الناقد الأدبي في الأصل) شديد الاهتمام بالثقافة المصنوعة للتلاؤم والإخضاع، متجاهلاً الفروق الهائلة في الإفشال وعدمه، من خلال طبيعة السياسات التي تتخذها الدول الوطنية.

&

&

&