عبدالله بشارة

من حق أبو مازن أن يغضب، ومن حقه دعم الآخرين لمسببات غضبه، فقد رسم حياته القيادية على الكفاح السياسي لعل يخرج منه ضوء في نهاية نفق مظلم عاش الشعب الفلسطيني فيه منذ عام 1948، رأى كيانات صغيرة في جزر نائية تنعم بالحضور الدولي وتمارس حقوق الهوية الوطنية على المسرح العالمي، وتشارك في مداولات الأمم المتحدة عن صيانة الأمن ووقاية السلام، بينما يظل الشعب الفلسطيني محروماً من حقه الطبيعي في الانضمام إلى الأسرة العالمية.


فمن الطبيعي أن يفرز هذا الوضع حالة السخط التي تعيشها المنطقة بعد قرار الرئيس ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونتفهم حالة الرئيس أبو مازن في خروجه عن المألوف في اتخاذ قرار المقاطعة ورفض المشروع الأميركي المقترح، فلم تعد له ثقة بالإدارة الأميركية الحالية، وشاركته في رفض قرار القدس مئة وثمان وعشرون دولة، من الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والمجموعة الإسلامية وخارجها من آسيا وأفريقيا، وحصل على مؤازرة دولية لموقفه في رفض الإجراءات الأميركية.
ومع اتضاح الدعم القوي لموقف أبو مازن، تعود القضية الفلسطينية كعنصر جوهري متداخل مع استقرار المنطقة، ومع تحقيق الأمن العالمي الجماعي، ومن أجل التوصل إلى صيغة تؤهل الشعب الفلسطيني للمساهمة المباشرة في المداولات العالمية بقبول فلسطين كعضو في الأمم المتحدة، من الضروري أن يجري الرئيس أبو مازن تقييماً واقعياً للوضع في المنطقة وفي العالم مع حسابات توازن القوى، في تجرد تام من حالة الغضب، فأكبر المآسي التي حلت بالشعوب خرجت من قرارات الغضب والحدة، وهنا يأتي دور الشركاء العرب والاصدقاء في العالم بالتوجه البناء باستخراج الرأي الناضج والاستشارة الصادقة من أجل أن تأتي مواقف أبو مازن منسجمة مع الاحتكام لمصالح الشعب الفلسطيني ومتناغمة مع أهداف هذا الشعب المناضل.
ولعل أفضل ما يمكن قوله في هذه المرحلة، ان المقاطعة مع الولايات المتحدة لا تمتثل لمسار المنافع التي يريدها أبو مازن، خاصة أن المنطق يدعو الى ممارسة الدبلوماسية الايجابية، التي تطرق كل باب والاستماع إلى كل من له دور في القضية، لاسيما الولايات المتحدة التي تولت الملف الفلسطيني داخل الامم المتحدة منذ عام 1967، والتي لها جسور التواصل مع كل الأطراف، وتملك كل النفوذ والأوراق المؤثرة.
وأعتقد أن ظروف اليوم تستدعي أن يصغي أبو مازن إلى ما يمكن أن يقوله الملك عبدالله ملك الأردن وما يمكن أن يقدمه الرئيس المصري فهما عنصر حيوي في معالجة الوضع.
ومن الطبيعي أن يتوقع أبو مازن الرعاية الخاصة منهما ومن الآخرين المؤثرين، لأن تكرار القول بتأييد ما يريده الفلسطينيون لا يفيد كثيراً، فالحالة الحرجة تتطلب المعالجة البليغة بتقديم الرأي الراجح.
في مذكرات السكرتير العام للأمم المتحدة السيد كوفي عنان، وسماها (تدخلات) Interventions، يخصص مئة صفحة للقضية ويشرح ما دار مع كلينتون والرئيس بوش وعرفات وباراك، ويقول ان كلينتون كان حريصاً على تحقيق تقدم، وأنه قدم مشروعاً في ديسمبر 1999، لكل من باراك رئيس وزراء إسرائيل وعرفات زعيم المنظمة، وكان شرط كلينتون لا تعديل في المشروع، على قاعدة قبول أو رفض، كان جواب باراك «نعم ولكن» كان جواب عرفات «لا وربما»، فينعى السكرتير العام الجهد الذي بذله كلينتون، ويشير في تفاصيل تحفظات البيت الأبيض على عرفات، فعندما اقترح السكرتير العام اسم كلينتون على الرئيس بوش لتولي المفاوضات بين الطرفين، يرد الرئيس بوش بالرفض.
ومن المفارقات في مذكرات كوفي عنان اشارته إلى تدخل الرئيس اللبناني لحود لمنع عرفات من توجيه كلمته إلى القمة العربية، التي كانت منعقدة في بيروت وخرجت منها المبادرة العربية.
مع اشارات حول الانتفاضة الثانية التي لم يستفد منها الشعب الفلسطيني، وكلفته أكثر من خمسمئة قتيل كما يدون السكرتير العام.
تظهر الآن الحاجة الماسة للجنة العربية المختصة بالقضية، وفيها أصحاب الشأن المباشرون والمعنيون بالقضية، السعودية والامارات، والمغرب، حيث تتواجد داخلها خبرات في التعامل مع الأزمات، وفيها من له اتفاقيات سلام مع اسرائيل، وفيها من له موقع جغرافي أهله للبراغماتية السياسية، ولا يمكن أن نتجاهل قانون الضرورة الملح في الحفاظ على خيوط التواصل مع جميع الممرات، لا سيما تلك التي تملك الجسور مع كل الأطراف.
والرئيس أبو مازن على علم بما يحدث، فعندما يخلو الفضاء الفلسطيني من تواجد عالمي مؤثر ستقوى شهية اسرائيل في ضم الأراضي وجلب المستوطنين، وإذا كانت الضفة الغربية وغزة تمثلان %22 من أرض فلسطين فمع الفراغ ستلتهم اسرائيل ما تبقى، وسيشتد الغضب ويعلو اللطم على ضياع فرص لم نستغلها، كما يشير كوفي عنان واضعاً اللوم على واشنطن واسرائيل وعرفات وهو أضعف الحلقات.
الدول مثل البشر تزداد نضجاً مع الأزمات، وتظل وراء الممكن انتظاراً للمرغوب فيه.