أحمد فؤاد أنور 

يساعد الإدارات الأمريكية المتعاقبة حين تقرر أن تنحاز لإسرائيل فى مواجهة العالم أن اهتمامات المواطن الأمريكى العادى تنحصر إلى حد بعيد فى شئون داخلية منها توفير فرص عمل، وتقديم خدمات طبية على مستوى متميز، وحجم الضرائب التى يتم جبايتها، وربما لا ينتبه قطاع عريض من الأمريكيين للشرق الأوسط إلا عند تطلعهم لسعر الوقود المتغير فى محطات الوقود، وهو ما تستغله إدارات أمريكية عديدة لترويج أكاذيب وتوجيه دفة الرأى العام نحو دعم غير محدود لتل أبيب فى مواجهة العالم. فضلا عن مناهج تعليمية زوّرت التاريخ. وإذا كان من المعلوم أن نسبة تصويت اليهود فى الانتخابات الأمريكية أعلى من نسبتهم لمجموع السكان، وأن لهم نفوذا سياسيا واقتصاديا وإعلاميا لا يمكن تجاهله، فهل يمكن القول إن تل أبيب باتت تحرك واشنطون؟ فما الذى يسعى إليه رجل الأعمال المثير للجدل ترامب فى ملف الشرق الأوسط؟ وما هو حجم تأثير خطواته علينا وعليه؟ وما هى البدائل المتاحة للتعامل معه؟

إن الخط المعادى للأمم المتحدة ولمجلس الأمن بالتبعية وللمجتمع الدولى هو خط إسرائيلى بامتياز فهى سياسة انتهجتها إسرائيل منذ الخمسينيات، حين سب بن جوريون الأمم المتحدة عام 1955، وكان حينئذ وزيرا للدفاع ولديه رغبة فى احتلال قطاع غزة حتى قبل زيادة وتيرة هجمات الفدائيين على الأراضى الإسرائيلية . ويمكن للمراقب تفسير التحول النوعى فى النهج السياسى الأمريكى المنعزل عن الشرعية الدولية وعن الأصدقاء قبل الأعداء والذى قدم نفسه على مدى عقود كراعٍ لعملية السلام بأنه تمهيد للأرض أمام «صفقة القرن»، وتكييفنا نحن العرب- على قبول «حلول مؤلمة»، أو بالأحرى «تنازلات مرفوضة»، وفى هذا السياق قد تقلص الإدارة الأمريكية بالفعل المعونة المقدمة لمصر والأردن المرتبطة باتفاقيات السلام. لكنها فى الوقت ذاته من المتوقع أن تسمح لحلفائها التقليديين (خاصة بريطانيا التى شاركت معها الحرب العالمية الأولى ثم الحرب العالمية الثانية، ثم الحرب الباردة، وحرب الخليج الثانية، ثم حرب أفغانستان، واحتلال العراق) بالتمرد عليها كخط رجعة إذا ما اضطرت للتراجع على غرار ما اضطرت إليه الحكومة الإسرائيلية منذ خمسة أشهر حين ألغت قرارها بشأن تركيب بوابات إلكترونية وكاميرات فى الحرم القدسي، وبالطبع حين قرر نائب الرئيس الأمريكى تأجيل زيارته لمصر ولإسرائيل.

السياسات الإسرائيلية جعلت وسم بضائع ومنتجات المستوطنات رد فعل طبيعي، وجعل المقاطعة الأكاديمية تظل مطروحة وبقوة من أكبر الجامعات الغربية، فضلا عن ملاحقات قضائية تجعل كبار المسئولين فى إسرائيل يخشون الهبوط من طائراتهم فى عواصم أوروبية خشية الاعتقال. فضلا عن رأى عام عربى وإسرائيلى لم يغفر ولن ينسى سلسلة طويلة من الجرائم والعنصرية التى كرسها الاحتلال ضد العرب.

فما الذى سيجنيه المواطن الأمريكى أو حتى ترامب من السير على خطى تل أبيب؟ لقد ظلت عملية السلام غير مطروحة على جدول النقاش لسنوات ووصلت المسيرة إلى طريق مسدود فهل يسعى الرئيس الأمريكى الحالى لنسف العقبات أم لدهس الحقوق العربية كحل غير تقليدى من وجهة نظرة؟!

فى الوقت الذى تتطلع فيه واشنطون لدور أقوى فى الشرق الأقصى أمام تحديات كوريا الشمالية وطموح الدب الروسى والعملاق الصينى نرى أن المخرج الذى يبعد واشنطون عن دوامة الخسائر التى وضعت نفسها فيها يتمثل ببساطة فى تراجع عن تصريح ترامب وتنصل عن فحواه أو تفريغه من المضمون بعد أن استمعت إلى رأى المجتمع الدولى بوضوح فى مجلس الأمن وفى الأمم المتحدة وفى شوارع غاضبة ملتهبة .. تصويب المسار يمكن أن يتم من خلال ترضية رسمية من خلال سلسلة من الاجراءات أولها تفسير واضح لعبارات مطاطة وردت فى تصريح 6 ديسمبر، وثانيها الاعتراف الواضح والكامل بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين مع ترتيبات معينة لزيارة حائط المبكى للقطاع الذى يرغب فى أن يزوره من اليهود، حيث إن هناك قطاعات من اليهود ترفض تماما زيارة «جبل الهيكل» (الحرم القدسي) متضمنا حائط المبكى (حائط البراق: الجدار الغربى للحرم) .

لن تفيد نغمة التهديد العلنى (على طريقة من ليس معنا فهو ضدنا)، أو (العلم كله ضدنا) بل ستضاعف من حجم التأثير السلبي، وستتعارض مع جهود دامت لعقود لتحسين صورة الأمريكى فى المنطقة. الجموح الأمريكى يدفع الشارع العربى وصانع القرار لإظهار الغضب وتفعيل تحالفات وآليات تحرك جديدة، لأن وفقا لحجم وطريقة توجيه الغضب فى الاتجاه الصحيح بتناغم مع كل الأطراف الداعمة للحقوق العربية سيأتى التراجع الأمريكي، بل وبلورة منصفة للصيغة النهائية لصفقة القرن.