محمـد أبــوالفضـــل

لست معنيا إذا كان ما يجرى فى إيران من احتجاجات يحمل بذور ثورة شعبية جديدة أم لا، ولست مهموما بتحديد حجم التدخلات الخارجية فى تغذية المظاهرات الحالية، والتى يقوم بها معارضون للرئيس حسن روحانى، ومؤيدون للنظام الإيرانى.

فى كل الأحوال، ما يدور يهم دولا عديدة فى المنطقة، ويصعب التعامل معه باعتباره شأنا إيرانيا فقط، لأن عبره ودروسه ورسائله تهم كثيرين، ربما لم تتضح المعالم النهائية لمصير الأزمة التى تزداد عنفا، لكن فى المحصلة تنطوى على ما توقعه البعض منذ المصادقة على الاتفاق النووي، قبل عامين، بين إيران والدول الغربية.

وقتها كتبت فى هذا المكان مقالين، يومى 23 و30 يوليو 2015، الأول بعنوان «العد التنازلى لتخريب إيران»، والثانى «جدل العد التنازلى لتخريب إيران»، كان مضمونهما يقول إن المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد، ونتيجتها سوف تؤدى إلى تفوق الخيار الغربى الناعم على خيار القوة الخشنة، وقلت «الاتفاق النووى لن يكون خطوة لتسكين أو تخريب إيران فقط، لكنه مرجح أن يتحول إلى قفزة كبيرة للمنطقة..».

بالتأكيد لم أكن أعلم الغيب، لكن التسلسل المنطقى لكثير من الأحداث يؤدى إلى النتيجة التى نراها ماثلة أمامنا الآن، فمن الصعوبة أن يتم الصمت على تنامى قوة إيران، وتعاظم نفوذها للدرجة التى أصبح غرور القوة مرادفا لها حاليا.

ولأن المواجهة المسلحة مكلفة لأطراف كثيرة، كان من الضرورى العمل على خلخلة النظام من الداخل، وفقا لآليات سياسية وإعلامية واجتماعية واقتصادية وغيرها، للدرجة التى وصل الحال إلى ما نشاهده وكأنه إحدى حلقات الأزمة فى سوريا.

العلاقة بين المؤامرة والتحركات العفوية تسير على خيط رفيع، فلم يعد مفهوم التآمر مقصورا على التدخلات المباشرة، فهناك أدوات للحصول على نتيجة واحدة بطريقة تتسم بالمرونة والذكاء، المهم تهيئة البيئة الداخلية لتقبل تغيرات وتطورات مفاجئة وليست فى الحسبان، وعندما تحين الفرصة لإطلاق الشرارة الأولى يكون كثيرون على استعداد للنفخ فيها، خاصة مع انفجار مشكلات كامنة تحت السطح، خمدت لأسباب أمنية وسياسية معينة.

الاحتجاجات فى إيران ـ سواء نجحت الآلة الأمنية فى قمعها مبكرا أو استمر المتظاهرون فى المدن المختلفة ـ هى إشارة قوية على أن نتائج الاتفاق النووى بدأت تتبلور ملامحها، وما حدث فى مصر وسوريا وليبيا واليمن، منذ حوالى سبعة أعوام، يمكن تكراره فى إيران، مع اختلاف فى طريقة تعامل النظام والنتائج التى تفضى إليها الاحتجاجات.

إذا تم قمعها والسيطرة عليها بالقوة، فسوف يدخل النظام تعديلات مهمة فى بنيانه السياسى والاقتصادى والأمني، يمكن أن تفرز تداعيات كبيرة على الواقع الإيراني، من حيث رد فعل الشعب ومدى تجاوبه مع خطاب المرشد الفضفاض، ورؤية النظام للتعامل مع أوجاع ومطالب المواطنين.

وإذا تواصلت الاحتجات وبلغت حد الانتفاضة وهزت جذور النظام، فالكوارث التى يمكن أن تترتب على ذلك تفوق ما حدث فى كل من سوريا وليبيا واليمن مجتمعة، ويتبين أن البيئة التى بدت لنا صلبة لسنوات طويلة أكثر هشاشة مما نتخيل.

الهزة الإيرانية، تحمل مجموعة من الرسائل لدول الجوار التى حاولت الاستفادة من ثورات الربيع العربي، مثل تركيا، وهو اختيار مقصود، لأن هناك تماسا فى بعض الأفكار التى يتبناها كل نظام فى البلدين.

مع ما يبدو من تنافر بينهما، غير أنهما يشتركان فى الطموحات والأحلام وإعادة عجلة التاريخ للوراء، والرغبة فى الانتقام من الدول العربية، والإسراف فى التدخلات الخارجية، وتقدم الأفكار العقائدية على السياسية، ناهيك عن تزايد ملامح التفكك الاجتماعي.

التشبيه لا يعنى بالضرورة أن تتحول تركيا إلى إيران أخرى قريبا، لكن لن تكون بمنأى عن مواجهة احتجاجات مماثلة، لأن الدوافع التى أدت إلى رؤية المشهد الراهن فى إيران ليست ببعيدة عن تركيا، حتى لو كانت الأخيرة أفضل حالا على أصعدة مختلفة. ويمكن تحديد أربع رسائل رئيسية تتلقفها أنقرة أو غيرها.

الأولى: الأزمات الاقتصادية المحرك الأول لكثير من المشكلات السياسية، عندما تتسع الفجوة فى أى مجتمع لابد أن يعبر الشعب عن غضبه، قد يظل مكبوتا لفترة ولدواعى عديدة، لكن إذا ضاق به الحال وواتته الفرصة فلن يتردد فى الانفجار، غير عابيء بما يواجهه من آلام، لاسيما وهو يرى قيادته، فى إيران وتركيا، تسرف فى الإنفاق على طموحات خارجية وتتجاهل ثقل الأزمات الداخلية.

الثانية: مخاطر تعاظم الأمنيات على حساب الإمكانيات، وأعتقد أن تفاخر أحد قادة إيران بهيمنة بلاده على أربع عواصم عربية (بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء) يحمل دلالة وافية على هذا الشق، كما أن الجهود التى تبذلها تركيا للتمدد فى المنطقة على حساب دول عربية عدة، يؤكد الرغبة فى الهيمنة.

ولعل الزيارة الأخيرة التى قام بها الرئيس التركى رجب طيب إردوغان للسودان الأسبوع الماضي، كفيلة بالكشف عن حجم ما يسيطر على عقله من أفكار عثمانية وأحلام إسلامية.

الثالثة: كبت الحريات وانتهاك حقوق الإنسان وقمع الأقليات، تجليات هذه المسألة واضحة فى تركيا، وهى المدخل الرخو الذى تستعين به جهات كثيرة لتحريض المواطنين والنفاذ للداخل.

ومع أن احتجاجات إيران لم تكن لها علاقة مباشرة بهذه الرسالة الشائكة، لكن معالمها أخذت تدخل على الخط، وقد تفضى إلى مضاعفة الأزمة الحالية.

الرابعة: دحض نظرية، فشل الثورات العربية كفيل بتثبيت دعائم الأنظمة فى المنطقة، فالمصير الغامض الذى تواجهه سوريا وليبيا واليمن، ومعاناة شعوب هذه الدول، من تيه ولجوء وتشريد، وظفه البعض لصالحهم، وبموجبه اتخذت أنظمة إجراءات قاسية، وهى على يقين أن شعوبها سوف تتقبل جميع الممارسات، خوفا من مواجهة مصير الدول السابقة.

هذا المنهج أسقطته احتجاجات إيران، فالغضب الذى يواجهه النظام الحاكم أقوى من أى سيناريوهات غامضة كان يستثمر فيها لتكريس توجهاته الأمنية والسياسية والطائفية، وهو ما تتجاهله تركيا أيضا، لأن تصاعد درجة الغليان يمكن أن يأتى على الأخضر واليابس، ويسقط الحديث عن هلالين «إيرانى وتركى» قيل إنهما من الممكن أن يطوقا المنطقة العربية.