عبدالله المدني

في أواخر نوفمبر المنصرم أصدرت محكمة لاهور الباكستانية العليا حكما بإطلاق سراح المدعو «حافظ محمد سعيد»، بعد إقامة جبرية دامت تسعة أشهر. وسعيد هذا، للذين لا يعرفونه، رجل دين باكستاني وأحد مؤسسي تنظيم «لشكر طيبة» الإرهابي الذي يعتبر الذراع العسكري لـ«جماعة الدعوة» الناشطة سياسياً والمنخرطة في تأسيس ورعاية المدارس الدينية المنتشرة بكثافة على امتداد باكستان.

وسعيد، من جهة أخرى، هو أحد أخطر الإرهابيين الذين تبحث عنهم واشنطن، بدليل أنها وعدت بمكافأة مقدارها 10 ملايين دولار لمن يساعد في اعتقاله. أما في الهند فهو المطلوب رقم واحد ضمن قائمة من 50 شخصاً تقول نيودلهي إنهم نفذوا أو خططوا لسلسلة الهجمات الدموية التي شهدتها مدينة بومباي في نوفمبر عام 2008، والتي أدت إلى مقتل 166 شخصاً بينهم ستة أميركيين، فيما تعرض أكثر من 300 شخص لإصابات متنوعة.

والحقيقة أن باكستان كانت تدرك مسبقاً أن أي قرار قضائي لصالح الإفراج عن سعيد يعني فرض عقوبات مالية عليها، ويعني في الوقت نفسه توتير علاقاتها الإقليمية والدولية، لاسيما مع واشنطن التي ما برحت منذ وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض تشكك في مصداقيتها لجهة مواجهة قوى الإرهاب والتطرف. لذا فإنها جندت كل طاقاتها لإقناع القضاة بإصدار حكم يقضي باستمرار خضوع سعيد للإقامة الجبرية. غير أن قضاة المحكمة العليا لم يلقوا بالا لكل حجج الحكومة واتخذوا قرارهم وفقاً لأسس قانونية بحتة، دون أدنى اعتبار للأسس السياسية، وذلك في مثال واضح على التزام بعض رجال السلطة القضائية بالنص الحرفي للقانون دون الأخذ في الاعتبار مصالح البلاد العليا.

وكما توقعت إسلام آباد، فقد أدان البيت الأبيض بشدة عملية إطلاق سراح سعيد، واصفاً إياها بالرسالة المزعجة، ومعتبراً أن عدم اتخاذ الإجراءات اللازمة للقبض عليه ومحاكته سيعيد فتح الجدل حول العلاقات الأميركية الباكستانية، خصوصاً وأن المفرج عنه يجاهر بدعم المقاتلين في أفغانستان وكشمير، وإنْ نفى ضلوع جماعته في أعمال قتالية.

بعد مضي نحو أسبوعين على هذا الحدث، وفي موقف علني نادر لجنرال باكستاني كبير، انتقد قائد الجيش الباكستاني «قمر جاويد باجوا»، خلال مؤتمر للشباب في كويتا عاصمة بلوشستان، ظاهرة انتشار المدارس الدينية في البلاد، ودعا إلى إعادة النظر فيها لكي تخرج أجيالاً متسامحة غير متعصبة، الأمر الذي أثار غضب الجماعات الدينية الباكستانية المحافظة والمتشددة التي تعتبر تلك المدارس (يزيد عددها عن 20 ألف مدرسة) دعامة قوة ونفوذاً لها، بل ومصدراً لتجنيد الشباب واستغلالهم سياسياً، وعلى رأس هذه الجماعات، بطبيعة الحال، «جماعة الدعوة» التي يتزعمها سعيد.

وقتها قيل إن الجنرال الباكستاني أراد من خلال تصريحاته تلك، إرسال رسالة إلى واشنطن مفادها أن إسلام آباد، ولئن لم تستطع إبطال الحكم القضائي بإطلاق سراح سعيد، إلا أنها تعمل ما بوسعها لتحجيم عمل مدارسه الدينية التي تتهمها الولايات المتحدة بتخريج المتطرفين وتجنيدهم للقتال في أفغانستان أو للقيام بأعمال إرهابية في أماكن أخرى ضد المصالح الأميركية والغربية.

وبعبارة أخرى كانت تصريحات الجنرال «قمر جاويد باجوا» محاولة مستميتة لترميم العلاقات الأميركية الباكستانية ومنع انزلاقها نحو المزيد من التدهور المتأتي من التوجس وعدم الثقة.

غير أن الرياح تبدو سائرة، مع مطلع العام الجديد، إلى حيث لا تشتهي سفن الباكستانيين. ففي أول تغريدة للرئيس ترامب في السنة الجديدة قال ما نصه إن «الولايات المتحدة، وبحماقة، أعطت باكستان أكثر من 33 مليار دولار من المساعدات في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، فيما هم لم يعطنا الباكستانيون سوى أكاذيب وخداع، معتقدين بأن قادتنا أغبياء».

وكان ترامب قد لمّح خلال الإعلان عن استراتيجيته للأمن القومي في ديسمبر المنصرم إلى احتمال وقف المساعدات نهائيا عن باكستان، بدعوى عدم جدية الأخيرة في مساعدتها على محاربة الإرهابيين العاملين فوق أراضيها، لاسيما تلك الجماعات التي تعبر الحدود لتقوم بأعمال القتل والتدمير في أفغانستان المجاورة.

لكن كيف ستتصرف إسلام آباد مع موقف أميركي متشدد كهذا حيالها، وهي التي ساعدت واشنطن كثيراً بعد أحداث 11 سبتمبر، أي في زمن حكم الجنرال برويز مشرف؟

بداية تجب الإشارة إلى أن الغضب كان كبيراً في باكستان. وقد عبرت عنه الصحف المحلية الصادرة عشية تغريدة ترامب. لكن لا المقالات الغاضبة، ولا تكرار الحديث عن تضحيات باكستان البشرية والمادية في سبيل اجتثاث الإرهاب والتشدد، ولا محاولات إلقاء اللوم على نيودلهي وكابول كمصدرين لتوغير صدر ترامب ضد إسلام آباد، ولا التصريح بأن باكستان في غنى عن المساعدات الأميركية، ولا التلويح بالاعتماد على بكين كبديل، ولا اتهام ترامب بمخالفة الحقيقة وهو يتحدث عن تقاعس باكستان في محاربة الإرهاب في اتهام للاستهلاك المحلي (على حد قول وزير الخارجية خواجة آصف)، ولا القول بأن الموقف الأميركي ناجم أساساً من فشل واشنطن في تحقيق السلام في أفغانستان.. لا أيٌ من ذلك سوف يجدي نفعاً لإعادة الأمور إلى سيرتها القديمة.

ربما هناك شيئان فقط قد يساعدان على ذلك، طبقاً لمراقبين كثر، وهما إعادة اعتقال حافظ محمد سعيد وتسليمه، ثم التمكن من الشبكة الإرهابية التي يديرها المدعو «سراج الدين حقاني» والمتهمة أميركياً بصلاتها القوية بحركة «طالبان» المقبورة والوقوف خلف العديد من الاعتداءات الدموية ضد القوات الأميركية العاملة في أفغانستان. فواشنطن ما برحت تزعم أن شبكة حقاني تنطلق في أنشطتها المشبوهة من الأراضي الباكستانية بعلم جهاز المخابرات الباكستاني نفسه، كما تقول.