عبدالله بشارة

 البعض يسأل، والبعض الآخر يتساءل، والكل يتجادل، كانت أسئلة عن الموحيات بإطلاق اسم جمال عبدالناصر على شارع يبدأ بالعاصمة ويعبر الصليبخات على الساحل الممتد غرباً حتى المطلاع.


فقد كانت الأسماء غير الكويتية تطلق على المدن أو أسماء شخصيات ساهمت في انطلاق الإسلام من بين أصحاب الرسول، أو من النوابغ في الفكر والعلم والفلسفة، ما عدا ذلك يبقى مثيراً خارج الإجماع المجتمعي، مثل الجدل حول شارع حسن البنا، وشارع ساطع الحصري، الأول زعيم الاخوان، والثاني رائد المشاعر القومية الحادة، فمن الطبيعي أن يتساءل البعض عن مبررات اختيار اسم زعيم عربي تختلف الآراء حول انجازاته، وان اتفقت على نزاهته، وتتباين المواقف حول حجم الموقع التاريخي الذي يشغله الرئيس جمال عبدالناصر، سواء في تراث بلده أو في السجل السياسي والانساني العربي.
ومن المنطق أيضاً أن يختلف الناس في منظورهم لمسيرته بسبب التعارض في هذه المسيرة، فيرتفع الرئيس عبدالناصر عندما يتناغم مع مرتكزات رجل الدولة statesman، في قرارات تعبر عن ارتفاع في تقدير المسؤولية وعن التوجه نحو الايجابية في استلهام العقل الراجح، لكن يختلف سلوكه تماماً مع النزعة القيادية الجماهيرية، فهنا يعلو نبض المشاعر لمغامراته التي رافقت عصره وشوهت منجزاته، وقضت على الوهج القيادي الذي خلق زعامته الجماهيرية.
كان انساناً نظيفاً زاهداً، مثالاً للنزاهة والأمانة، لكنه لم يستطع أن يوقف قوى الاندفاع في تكوينه، فوقع في حفر المآزق التي أضرت بالجميع، بمصر الوطن الذي عشقه، وسعى بجد لتحويله إلى دولة حديثة ومستنيرة وبدول المشرق التي تتعايش الآن مع كارثة أفرزتها حرب 1967.
ما يهمنا هو عطاؤه تجاه الكويت، فقد كان صديقاً للكويتيين ومدافعاً عن دولتهم، ومعترضاً على أصحاب النوايا السلبية والمزعجة، وناصحاً لهؤلاء باتباع المنطق والالتزام بتحكيم العقل وإدراك المخاطر.
في حالة ادعاءات عبدالكريم قاسم في يوينو عام 1961، فقد أصدر مكتب الرئيس عبدالناصر بياناً سياسياً متشدداً في الحرص على الكويت، فيقول البيان «وفي رأي الرئيس جمال عبدالناصر أنه لا يمكن أن يحكم العلاقات بين الشعوب العربية غير المبادئ التي صنعها النضال الطويل للأمة العربية، وهي المبادئ التي تجري على أساسها حركة الأمة العربية إلى مستقبلها الهادف إلى صنع الوطن العربي الحر والمواطن العربي الحر، ومن هذا المنطلق فإن وجهة نظر الجمهورية العربية المتحدة بأن العلاقات بين الشعوب العربية لا تحكمها معاهدات أو اتفاقيات قديمة أو حديثة جرى توقيعها من قبل أطراف عربية أو أجنبية، وإنما العلاقات بين الشعوب العربية يحميها بل يصنعها ما هو أعمق من جميع المعاهدات أو الاتفاقيات.. ومن هنا فإن الجمهورية العربية المتحدة لا تقبل منطق الضم، وإن كانت على استعداد لبذل كل جهد لتأييد منطق الوحدة الشاملة».
حمل ذلك البيان مسرة الاطمئنان والارتياح لدى الكويتيين وغيرهم، بل اليقين بأن مغامرة عبدالكريم قاسم ستخلق للعراق المتاعب، وستؤدي إلى انقسامات خطرة في العلاقات العربية.
كان الرئيس عبدالناصر في ذلك الوقت زعيم الأمة، وراسم طريقها، ومهندس تحولاتها، والمؤتمن على سلامتها، وبهذا الوعي استقبلنا نحن في الكويت البيان الذي صدر من القاهرة في صد طموحات قاسم.
كان موقف رجل دولة نزع فتيل من احتمالات مواجهات ستجر دول خارج العالم العربي.
بعدها صارت الكويت عضواً في الجامعة العربية وفي الأمم المتحدة.
في أبريل عام 1963، بعد ثورة البعث في العراق، توجه وفد عراقي ضم علي صالح السعدي، وحازم جواد، وطالب شبيب وزير خارجية البعث، لإجراء مباحثات الوحدة تضم سوريا والعراق، وهنا يسجل كل من حازم جواد، وطالب شبيب ما دار بينهما وبين الرئيس عبدالناصر حول الكويت، فيكتب حازم جواد أنه أبلغ الرئيس عبدالناصر بأن هناك مشكلتين تواجهان العراق، الأكراد والكويت، ولا يريد البعث أن يشغل الرئيس عبدالناصر بتعقيداتهما، فيرد عليه الرئيس المصري ناصحاً بأن يكون التفاهم مع الكويت على أساس أن يتفهم حكم البعث واقع الكويت، ويعترف بها، ويعمق علاقاته معها.
كان هذا الرد كافياً لإنهاء التصورات البعثية، لكن طالب شبيب الذي كان وزير الخارجية، يضيف أن الزعيم عبدالناصر نصحه بالحوارات مع الكويت، وبالذات مع الشيخ صباح الأحمد، الذي وصفه عبدالناصر بأنه شاب قومي، ومن السهل التفاهم معه.
وبذلك أنهى الرئيس عبدالناصر ما رسمه حزب البعث حول مستقبل علاقته مع الكويت.
وأعتقد في ضوء هذا الموجز، الذي رسخ كيان الكويت وهويتها المستقبلية في العلاقات العربية وانطلاقها العالمي، لا مكان، بعد ذلك، للتساؤلات والاستفسارات.
فسيظل اسم الشارع حامل الوفاء الكويتي، لما قدمه الرئيس جمال عبدالناصر للكويت، معبراً عن امتنان تاريخي يجسده ذلك الشارع المميز.