في الطريق إلى صنعاء، خدع الحوثيون الرئيس الانتقالي عبدربه منصور هادي ثم وقعوا معه، بمباركة الأمم المتحدة، 'اتفاق السلم والشراكة' الذي لم يحترموا حرفا منه. يتقن الحوثيون لغة الخداع.

خيرالله خيرالله

يعطي التهديد الذي أطلقه صالح الصمّاد رئيس ما يسمّى “المجلس السياسي الأعلى” بتعطيل الملاحة في البحر الأحمر فكرة عن الهدف الذي يسعى إليه الحوثيون الذين سيطروا على صنعاء في الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر من العام 2014.

ليس صدفة أنّ هذا التهديد صدر لدى استقبال الصمّاد وفدا من الأمم المتحدة يضمّ معين شريم نائب مبعوث الأمين العام إلى اليمن. يعتبر، من صار يطلق على نفسه لقب “الرئيس”، أن وجود وفد من الأمم المتحدة في صنعاء هو بمثابة اعتراف بوجود سلطة الأمر الواقع التي تكرّست في العاصمة اليمنية، وإن مؤقتا، قبل نحو أربعين يوما، مع اغتيال “أنصار الله” للرئيس السابق علي عبدالله صالح.

إذا كان من فائدة للتهديد الذي أطلقه الحوثيون، فإن هذه الفائدة تكمن في أنّ مسيرة الحوثيين من صعدة إلى صنعاء، وصولا إلى اغتيال علي عبدالله صالح، تؤكد مدى خطورتهم.

ليست هذه الخطورة محصورة في اليمن فحسب، بل في المنطقة المحيطة به أيضا، بما في ذلك طريق التجارة العالمية المهمّة التي تمرّ بباب المندب والبحر الأحمر وصولا إلى قناة السويس. ليس صدفة أنّ قوى مختلفة تسعى هذه الأيّام إلى وجود في البحر الأحمر. ليس سرّا أيضا أن أميركا وفرنسا وإيطاليا موجودة عسكريا في جيبوتي.

آخر القوى التي تسعى إلى وجود في البحر الأحمر هي تركيا التي غازلت السودان كي تقيم قاعدة في إحدى الجزر المهجورة الواقعة في ذلك البحر وتدعى سواكن. يريد الرئيس رجب طيب أردوغان إحياء هذه الجزيرة المنسية، التي كانت تحت الاحتلال العثماني.

يكلّف إعادة إحياء الجزيرة الذي يصبّ عمليا في إطار سياسة تستهدف تطويق مصر، نحو 650 مليون دولار. من أين ستأتي تركيا بهذا المبلغ الكبير في وقت تواجه أزمة اقتصادية عميقة؟ الأهمّ من ذلك كله، من يمكن أن يأخذ على محمل الجدّ تركيا وسياساتها، إذا وضعنا جانبا رغبتها في مضايقة مصر، بعد فشلها الذريع في سوريا؟

تحوّلت تركيا في سوريا إلى مجرد تابع للسياسة الروسية وحليف غير مباشر لإيران، بدل أن تكون اللاعب الرئيسي في البلد الجار الذي كان أهله يحنّون في الماضي القريب إلى دور تركي إيجابي على كلّ صعيد.

عندما يتابع المرء ما يدور في البحر الأحمر وعلى ضفتيْه، لا يكتشف أن همّ الحوثيين بات مقتصرا الآن على الاحتفاظ بميناء الحديدة الذي يعتبر من أكبر الموانئ في المنطقة فحسب، بل إنهم يريدون الذهاب إلى أبعد من ذلك.

يريدون أن تكون المنطقة التي يسيطرون عليها في اليمن قاعدة إيرانية ولا شيء آخر غير ذلك. كلام الصمّاد أكثر من واضح. هناك عبارة وردت في الوكالة الرسمية (سبأ)، التي يسيطر عليها الحوثيون، تقول كلّ شيء. ففي اللقاء مع وفد الأمم المتحدة أكّد الصمّاد أن لدى جماعته “الرغبة في السلام والدخول في مفاوضات (…) وسيجدون منّا ما لم يجدونه في الماضي”.

يمكن تلخيص اللقاء بين “الرئيس الصمّاد” ووفد الأمم المتحدة بالرغبة في إبقاء ميناء الحديدة في يد الحوثيين، كي يكون ميناء إيرانيا، وإعادة فتح مطار صنعاء وفكّ الحصار الذي فرضه “التحالف العربي” على مناطق سيطرة “أنصار الله”.

ما كان الحوثيون ليلوّحوا بتقديم تنازلات لولا شعورهم بأن هناك جدية لدى “التحالف”، الذي تقف على رأسه المملكة العربية السعودية، في تمكين “الشرعية” من استعادة الحديدة.

صار الاحتفاظ بالحديدة هدفا بحدّ ذاته بالنسبة إلى “أنصار الله” الذين لا يريدون أن تفقد إيران موقعا على البحر الأحمر بعدما فقدت ميناء المخا الذي كان في يدهم إلى ما قبل فترة قصيرة.

قتل الحوثيون علي عبدالله صالح في الرابع من الشهر الماضي ليقولوا إنّه لم تعد لديهم حاجة إليه وإلى “المؤتمر الشعبي العام” الذي كان يتزعمّه. اعتبروا أنهم استنفدوا الغرض من التظاهر بالتعاون معه في السنوات الثلاث التي تلت سيطرتهم على صنعاء. الأكيد أن طموحات “أنصار الله” تقلصت إلى حدّ ما جغرافيا، لكن جوهرها ما زال نفسه وهو يتمثّل في أن يكون جزء من الأراضي اليمنية مستعمرة إيرانية.

كان الحوثيون مندفعين في البداية في اتجاه السيطرة على كل اليمن. كانوا في حضرموت وشبوة وفي عدن والمخا. وما زالوا في تعز وإب، إضافة إلى صعدة وعمران وحجة وصنعاء وذمار ومناطق أخرى.

يبدو هدفهم في الوقت الحاضر محصورا بالانتقال إلى مرحلة جديدة والاعتراف بهم بصفة كونهم الحكام الجدد لليمن الشمالي. يأتي ذلك في الوقت الذي تبدو فيه عملية استعادة “الشرعية” لميناء الحديدة قد دخلت مرحلة متقدمة، على الرغم من الصعوبات الكبيرة التي يمكن أن تواجه مثل هذه العملية العسكرية بسبب طبيعة المنطقة المحيطة بالميناء وتلك المطلة عليه.

تجمع بين كل ما قام به الحوثيون إلى اليوم كلمة واحدة هي الخداع. خدعوا علي عبدالله صالح الذي لعب دورا أساسيا في قيامهم ودعمهم وإيصالهم إلى إيران وإدخالهم مجلس النواب اليمني. كان ذلك في منتصف التسعينات من القرن الماضي عندما عُرفوا بـ”الشباب المؤمن”. انقلبوا عليه. لم يكتشف ذلك، أو على الأصحّ لم يتأكّد منه، إلا في العام 2003.

في الإمكان عرض كل ما قاموا به منذ كانوا “الشباب المؤمن” إلى أن صاروا “أنصار الله” وصولا إلى الانتقام من علي عبدالله صالح في الرابع من كانون الأول – ديسمبر 2017. ما زالوا إلى الآن يحتفظون باثنين من أبنائه (مدين وصلاح) رهينتين لديهم مع ابن شقيق علي عبدالله صالح، محمّد محمّد عبدالله صالح، وآخرين من أبناء العائلة.

في الطريق إلى صنعاء، خدع الحوثيون الرئيس الانتقالي عبدربه منصور هادي ثم وقّعوا معه، بمباركة الأمم المتحدة ممثلة وقتذاك بجمال بنعمر ممثل الأمين العام للمنظمة الدولية، “اتفاق السلم والشراكة” الذي لم يحترموا حرفا منه. يتقن الحوثيون لغة الخداع.

اتضح الآن ما الذي يريده الحوثيون تحديدا، وما الهدف من استقبالهم نائب مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، في حين هاجموا المبعوث إسماعيل ولد الشيخ أحمد. يريدون باختصار شديد موقعا لإيران على البحر الأحمر، ويريدون تماسا لها مع المملكة العربية السعودية. ولذلك، يبدون على استعداد لتقديم تنازلات كثيرة وحتى ضمانات سيتبين أنها ستبقى حبرا على ورق. هل تقع الأمم المتحدة في فخ الحوثيين مجدّدا؟

خلاصة الأمر أنه كلما مر يوم، يتبين أنه لم يكن من خيار آخر لدى دول الخليج العربي، خصوصا السعودية ودولة الإمارات، غير شن “عاصفة الحزم” التي انطلقت في آذار – مارس 2015. حدث ذلك في وقت يأخذ التنافس بين القوى الإقليمية والدولية على إيجاد مواقع لها على ضفتي البحر الأحمر بعدا جديدا مع دخول تركيا وغير تركيا على هذا الخط.

يبدو تغيير موازين القوى داخل اليمن حاجة خليجية أكثر من أي وقت تفاديا للوصول إلى يوم تصبح فيه الدولة الحوثية في اليمن وعاصمتها صنعاء أمرا واقعا لا مجال لتجاوزه. مثل هذه الدولة لن تشكل خطرا على اليمن نفسه، بمقدار ما أنها ستكون قاعدة تهدد منها، بالصواريخ الباليستية وغير الصواريخ، كل دولة من دول الخليج العربي في مقدمتها المملكة العربية السعودية.


إعلامي لبناني