جبريل العبيدي

احتجاجات تونس قد يكون عنوانها مطالب معيشية مشروعة، ولكنها ظهرت في أجزاء منها بمظهر الفوضى والتخريب والنهب أحياناً، الأمر الذي لا يمكن قبوله، كخروجها في جنح الليل خاصة مصحوبة باستهداف الممتلكات العامة والخاصة، مما يشكِّل علامات استفهام كثيرة،

خصوصاً أن بعض «أيتام» الرئيس زين العابدين بن علي يسارعون إلى تبني حراكِها، رغم ضعف مصداقية ما ينسبونه لأنفسهم في بلد مثل تونس عايَش العمل السياسي لفترة طويلة منذ زمن بورقيبة، وإن افتقده طيلة سنوات بن علي، فلا يمكن أن تنطلي عليه خدع المتباكين على زمن نظام بن علي.
الاحتجاجات الشعبية حق تعبير ديمقراطي في الحدود السلمية، ولكن عند خروجها عن سياق النظام والانضباط يصبح من حق السلطات حماية الممتلكات العامة والخاصة وأمن المواطنين... وخروجها عن الانضباط وجنوحها إلى الفوضى لا يعني أن سياسة الحكومة التقشفية كانت صحيحةً أو مقبولةً في بلد يعاني المواطن فيه مشكلات اقتصادية طالت لقمة العيش، وهذا ليس استثناء تونسياً، فليبيا، الجار النفطي، تعاني الفوضى والانهيار الاقتصادي رغم أنها تطفو على بحيرة نفط، بسبب نزعات سياسات وحكومية فاشلة جوَّعت المواطن الليبي وجاره التونسي، بعد أن انعكست ظلالها على الاقتصاد التونسي المعتمد على التجارة والتصدير والاستثمار مع الجار الليبي وسوق العمل فيه.
تونس البلد الفلاحي المستقر قبل الربيع العربي منذ سنوات طويلة، يعاني اليوم من أزمات اقتصادية خانقة، بعد إهمال الاقتصاد الفلاحي والركون للاقتصاد الريعي، ما جعل الخزينة العامة تفلس بمجرد ركود القطاع السياحي جراء الضربات الإرهابية، بعد خلو الفنادق والمنتجعات من روادها الذين طالهم رصاص الإرهاب العابر للحدود.
تونس الخضراء، تونس بورقيبة، تختلف اليوم عن تونس الربيع العربي، التي تعاني كغيرها من دول «الربيع» المزعوم من الاحتجاجات والاضطرابات المتنوعة الأسباب والمسببات والدوافع، جراء إرهاصات الربيع العربي وفوضى التعبير، التي أفسدت الأخضر وحتى اليابس، بسبب الحرية غير المنضبطة.
تونس الخضراء تقدَّمَت خطوات كبيرة في مجالات التعليم خاصة، مما وضع تونس بورقيبة في مقدمة الدول ذات الجودة في التعليم والصحة، فالتجربة البورقيبية، وإن تصادمت في جزء منها مع الموروث الديني للشعب التونسي بتشريع قوانين الأحوال الشخصية الجدلية، فإنها سرعان ما تصالحت وانسجمت معه واحتوته، وعاش التونسيون زمن الحرية واستحقاقاتها، خصوصاً المرأة التونسية التي نالت حقوقها وأكثر، حتى كادت تتغول على حرية الرجل.
تونس الخضراء التي أسست لدولة مدنية حديثة، رغم شح الموارد، مقارنة بجارتيها ليبيا والجزائر النفطيتين، استطاعت، عبر تاريخ تونس بورقيبة، كدولة فلاحية بامتياز، تصدُّر الدول الزراعية بمنتج حقق نوعاً من الاستقرار الاقتصادي لها، مما شكّل حالة من الاستقرار المعيشي لسنوات طويلة، باستثناء ثورة الخبز في الثمانينات، التي اتهمت بافتعالها دول مجاورة لإسقاط حكم بورقيبة، الذي كان يُتهَم بـ«معاداته» للخط القومي العربي، رغم أن المساحة الجغرافية لفلسطين التي طالب بها بورقيبة لاستعادة فلسطين حينها، كانت أكبر وأفضل مما تم الحصول عليه بمفاوضات غزة وأريحا.
احتجاجات تونس المعيشية، بغض النظر عما شابها من أخطاء، في نهاية المطاف، تعبِّر عن حالة شعبية ضاق بها الحال الاقتصادي المتردِّي، والفشل في احتواء الأزمة الاقتصادية، وتحقيق حالة من الاستقرار، ولكن في نهاية المطاف تونس صاحبة ميراث التعايش السلمي والمجتمعي، ستعود إلى اخضرارها وتنفض عنها غبار فوضى الربيع العربي التي أفسدت الزرع والحرث، ليس في تونس البوعزيزي وحدها، بل في ليبيا واليمن وسوريا.